صدارة مجالس التواصل!!

 

راشد بن سباع الغافري

 

لو آمنا بأنّ لكل زمان مجلسه وجُلاسه لحققت وسائل التواصل بأنواعها المختلفة المراتب المتقدمة في هذا العصر. فهذه الوسائل أصبحت كالمجالس العامة التي تضم مختلف الفئات بمختلف التوجهات.

لكن هذه المجالس في كثير من أحوالها لم تراع مرتاديها ولا منتسبيها وأصبح بعض أصحاب الحسابات يتنافس لكسب صدارة هذه المجالس، رغبة منه في تسليط أضواء الشهرة عليه حتى لو كان ذلك على حساب القيم والمبادئ والأعراف، فكل هذا ما عاد يجدي نفعًا أمام حجم "اللايكات والتفضيلات وأعداد المتابعين المتزايدة"!

وبات كثير من هؤلاء يتاجر بكل شيء حتى بما يسيء إلى مكانتهم ووطنهم؛ بل وإلى شرفهم في سبيل الحصول على ذلك الوهم الزائف من صدارة المجالس وحب الظهور. مجالسنا الحقيقية في أرض الواقع لها أهدافها ومبادئها، ولها عاداتها وتقاليدها، وفيها توقير للكبير وتوجيه للصغير واحترام لذوي الشأن سواء تميزوا بكبر السن أو بالمنصب أو بالعلم والمعرفة أو غير ذلك.

لكن كثيرا من مجالس وسائل التواصل نسفت كل ذلك أو سعت لذلك النسف من حيث يدري أصحابها ومن حيث لا يدرون، فأصبح يسود أكثرها السّب والشتم واللعن والطعن والتنابز والاستهزاء والعريّ والتكشف واستعراض المفاتن بطرق متنوعة ويكون ذلك أحياناً بموافقة الزوج ومساعدته.

قبل سنوات عدة وبعد ظهور وسائل التواصل كنت أتحدث مع بعض الإخوة قائلا: "ستقبل علينا سنوات إن لم يجد الشباب من يوجههم فيها ويتحاور معهم فلربما اتجهوا إلى ما لا يخدم وطنهم ولا يرقى بمجتمعهم".

واليوم باتت كثير من الأفكار المشّوهة تطل علينا برأس الفتنة السافر، حتى صار شباب هذا المجتمع يصنفون أنفسهم ويقسمونها لعدة تصنيفات وتقسيمات بسبب ذلك التنافس على الصدارة "فظهرت على إثر ذلك مصطلحات كالمطبل والموالي والمُعارض والمُحافظ والمُلحد والنسوي والمتشدد وغيرها من ألقاب التنابز".

وما أرى تلك التقسيمات سوى عامل تشظٍ يترصد هذا المجتمع وأبناءه ليفتته ويهدم أركانه، وبلا شك سيكون له آثاره السلبية في المدى القريب وعلى المدى البعيد ما لم يتدارك العقلاء هذا الأمر.

إن من أكثر سلبياتنا بهذا المجتمع أننا روجنا أنفسنا على أننا متوافقون مع الجميع ومحتضنون للجميع ونتقبل كل الآراء، ولم نربط ذلك التوافق وذلك الاحتضان وذلك التقبل للرأي بمدى تقيّد ذلك الطرف بالقانون وبثقافة المجتمع وتشريعاته واحترام خصوصياته، ولهذا انفتح كثيرون على العديد من الأفكار الهادمة للأوطان والمدمرة للمجتمعات والمسيئة للدين والمحقرة للرموز، واعتنق كثيرون نتيجة لذلك مبدأ الحرية المطلقة الأقرب إلى البهيمية التي لا يحدّها تشريع ولا ينظمها قانون ولا يوجهها خلق، وبتنا نعيش واقعاً لو أُخبرنا عنه قبل 30 عامًا أنه سيأتي على مجتمعنا العُماني لاعتبرنا ذلك ضربًا من الخيال أو الجنون أو الوهم.

واليوم أصبح واقعاً لدرجة أن تنكر البعض للإله واستمات البعض الآخر لتعميم الانحلال، وكلا التوجهين لا يمكن أن يبنيا وطناً ولا يصلحان مجتمعا، فمن استهان بعلاقته مع خالقه لا يرتجى منه احترام العلاقة مع البشر أيّا كانت صفتهم ومنزلتهم ومكانتهم، ومن دعا إلى الانحلال لا يمكن أن يرفد المجتمع بأبناء بررة يرفعون من شأن وطنهم وأمتهم.

وقد وجد بيننا من تشدد في خطابه لإقصاء الآخر، وحاول تنصيب نفسه حاميا للعرين وكأنه المكلف بالقانون وبالقضاء في نفس الوقت وبات يصدّر الأحكام ويوزعها وفق ما وافق هواه دون أدنى اعتبار للجهة الرسمية المسؤولة عن هذا الأمر.

وما الحسم لمثل هذه التجاذبات وعلاجها قبل زيادة تفاعلها وتفاقمها إلا بإفساح المجال لتطبيق القوانين والتشريعات التي سُنت للفصل في مثل هذه التجاوزات، وعدم التدخل في ذلك من أيّ طرف كان.

وعلى الجهات التي شرّعت وسنت القوانين أن تكون بالمرصاد لأيّ انحراف فكري أو خُلقي ومن أيّ كائن كان حتى يطمئن أفراد المجتمع إلى أنّ هناك من هو قادر حقاً على حفظهم والحفاظ عليهم وعلى قدسية القانون وتطبيقه.

وهذا أمر لا يحتمل التأخير ولا التسويف ليظل المجتمع متماسكا حتى وإن اختلف أفراده في الرأي حول أيّ قضية.

ختامًا.. فلتكن مجالسنا سواء كانت على أرض الواقع أو الافتراض مجالس تربية وعلم وأدب يُحترم أصحابها ويُحترم مُرتادوها، وتقدم كل ما من شأنه الارتقاء بفكر وثقافة من يتحاورون فيها أو يطلعون عليها وتنمي فيهم حب الوطن والحفاظ على مكتسباته والترابط مع أفراده.

تعليق عبر الفيس بوك