من ذكريات 23 يوليو 1970.. نهضة وبانيها (3- 4)

خالد بن سعد الشنفري

 

كان قدر صلالة السعيد أن يبزغ وينطلق من قصر الحصن بها فجر عُمان الجديد، الثالث والعشرون من يوليو 1970المجيد، كما كان قد انبثق أول مرة ومن نفس هذا القصر في 18نوفمبر 1940م بميلاد قابوس القبس لعُمان.

كانت البشائر والتوجيهات والأوامر تتوالى من القصر بمعدل الدقائق والساعات لا بالأيام والشهور، وتتلقاها جموع المواطنين المحتشدة في ساحات القصر بفرح غامر وتهليل وتكبير نابع من القلوب قبل الألسن.

كم أتمنى اليوم لو كانت هذه المشاهد والمشاعر الإنسانية الغامرة مُوثقة صوتاً وصورة؛ لأن القلم يعجز فعلاً عن وصفها.

 وتتوالى البشائر والأوامر السلطانية من السلطان قابوس.

• عفا الله عمَّا سلف.

• ترقبوا خروج السجناء من سجن حصن صلالة وسجن جلالي مسقط.

• السفر للخارج مُتاح للجميع؛ لكن السلطان يدعوكم للمكوث لبناء عُمان معاً.

• على من بالخارج العودة سريعاً؛ لنبني جميعاً الوطن يدًا بيدٍ.

• الحريات مكفولة للجميع.

 • سنعلم أبناءنا ولوتحت ظل شجرة.

• حتى ساعات اليد، لمن لديه ساعة يد؛ رغم قلتهم لم يغفل التنويه بإدارة عقاربها على التوقيت العالمي بدل ما كان يعرف بالتوقيت العربي أو المحلي، إشارة واضحة لبدء تدشين دخول عُمان من اليوم بل من الساعة عصر العالم المعاصر الحديث ومن أوسع أبوابه.

 • أعدكم بأن أعمل بأقصى جهد ممكن لجعل عُمان في مصاف دول العالم المتقدمة.

أي رؤية واضحة وضوح الشمس، وأي إراده جبارة، وأي فكر ثاقب واستشراف للمستقبل كان يمتلكها هذا الشاب الملهم "قابوس"، وأي شيء كان أكثر من ذلك يريده شعب حرم من كل شيء: تعليم، صحة،كهرباء، ماء شرب نظيف، طرق، مواصلات واتصالات، شعب كان يعيش عزلة دولية وانقطاعا تاما عن العالم من حوله، ويقبع في مستنقع الممنوعات بالجملة، ممنوعات ما أنزل الله بها من سلطان:

ـ ممنوع الراديو (الإذاعة)

ـ ممنوع السيكل (الدراجة).

ـ ممنوع النظارات الشمسية.

ـ ممنوع الدراسة خارج نطاق المدرسة السعيدية.

ـ ممنوع الخروج من المنزل بعد صلاة العشاء.

"ياسبحان الله" القصر الطارد أصبح جاذبًا بين ظهيرة يوم وعصره.

كان السطان يطل بين الفينة والأخرى من شرفة القصر على جموع المواطنين المحتشدة بساحاته والابتسامة تعلو محياه، يحيي جموعهم المغتبطة فرحاً ويُشاركهم هذه الفرحة ويلقي على الصغار من الشرفة بريالات (ماري تريزا الفضية) التي كانت عزيزة حتى على الكبار ومخزنة في القصر وقطع الأقمشة وغيرها، كان يريد أن يعطي هذا الشعب المحروم من كل شيء أي شيء يصل إلى يديه، وعلى مدى الأيام الثلاثة الأولى من الحدث، وقبل أن يغادر السلطان قابوس إلى مسقط العاصمة لإدارة زمام عُمان من هناك، من قلبها النابض.

كانت هذه مجرد مقتطفات وشذرات كما أسعفتني بها الذاكرة الصغيرة حينها وهي ليست إلا غيض من فيض مما شاهدت وعشت طفلاً في هذه الأيام الثلاثة الأولى من إطلالة قابوس على عمان وبزوغ فجر نهضتها المباركة على يديه.

كنَّا قبل الثالث والعشرين من يوليو 1970، نستيقظ كل يوم على خبر هروب عدد من الشباب ممن بلغوا سن الرشد إلى خارج صلالة واضعين حياتهم على أكفهم؛ لتجاوز أسوار الشبك المزدوج الذي سوّر حولها من البحر إلى البحر ونيران دورياته الراجلة والمحمولة أو مصارعة أمواج بحر العرب العاتية ليلاً لساعات طوال للوصول إلى خلف السور شرقاً أو غرباً سباحة مستعينين بثمار جوز الهند اليابسة التي تطفو على سطح الماء وربطها بحبال ألياف النارجيل تتوسد صدورهم.

أصبحنا خلال أيام وأشهر من الـ23 من يوليو 1970، نرى ونسمع عن عشرات العائدين من الجبال من الثوار يسلمون أنفسهم بأسلحتهم، أو من خارج الوطن هارعين لحضنه الذي أصبح جاذباً وللمساهمة في بنائه ورفعته.

إن أي تغيير في الحياة لابد له من مدة زمنية لتحقيقه وحصوله على أرض الواقع.

بلد مترامي الأطراف متنوع التضاريس: صحاري وجبال وشعب معدم وبلا أدنى خدمات عصرية حريته مقيدة في أضيق نطاق، بلا مدارس وتعليم، بلا مستشفيات وصحة، فقر في كل شيء، ترزح تحت وطأة الثالوث اللعين؛ الجهل والمرض والفقر. لا كهرباء، عدا ضوء فوانيس الكيروسين الخافتة، لا ماء شرب نظيف، لا مواصلات لا اتصالات، وانقطاع تام عن العالم المتحضر وتحت كل لا من هذه عشرات اللاءات يقابلها عشرات الممنوعات:

ـ ممنوع السفر.

ـ ممنوع الخروج من المنزل بعد صلاة العشاء.

ـ ممنوع استيراد أي شيء يتحرك أو ينطق.

السؤال الذي يتبادر لذهن من لم يعايش هذا الحال هو لاشك سؤال مشروع؛ كيف تم هذا التغيير وبهذه السرعة؟! كيف تبدلت الصورة في زمن قصير؛ بل يخرج تصنيفه من ضمن المقاييس المتعارف عليها.

 "هنا يتجلى إلهام هذا المنقذ المخلص "قابوس".

نحن في سبتمبر أي بعد شهرين من 23 يوليو 1970، أول تطبيق لمقولة جلالته سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل شجرة، بدأت من المدرسة السعيدية الوحيدة بصلالة وظفار قاطبة ضمن ثلاث مدارس فقط في عُمان كلها، واحدة في مسقط وأخرى في مطرح، يسمح لكل منها بقبول ما لا يزيد عن ثلاثين طالباً في العام الدراسي الواحد وبالانتقاء المُباشر من السلطان للدراسة بها لمدة ست سنوات فقط (إبتدائي) بغية تخريجهم لغرض إلحاق مختارين من بينهم للعمل لدى الحكومة بدأ العام الدراسي الجديد وصدرت التعليمات باستيعاب المدرسة السعيدية بصلالة لكل من هم في سن الدراسة دون استثناء، وهكذا كان الحال في السعيديتين الآخريين.

كنت ضمن أول فوج من الطلبة الذي انضموا لسعيدية صلالة، رصصنا رصاً في الفصول المتاحة بها وفي ممراتها أحياناً، لم يكن بالإمكان إنشاء فصول جديدة في هذه الفترة الوجيزة، تم التوسع تدريجياً في الفصول وفي العام الدراسي الثاني من عصر النهضة أنشأت فصول جديدة في الجهة المقابلة لساحة المدرسة وأنشأت مدرسة النور للبنات في صلالة وأقيمت خيم التدريس في البوادي واستغلت الأشجار الكثيفة للتدريس تحتها في الأرياف وطبقت مقولة جلالته رحمه الله (سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل شجرة) عملياً على أرض الواقع.

كانت أولى معيقاتنا لدخول المدرسة الدشداشة البيضاء شرط التحاق بالمدرسة، لم يكن من في سننا يلبسها آنذاك إلا في الأعياد والمناسبات، كان لباسنا المعتاد نحن الصغار، الإيزار أو الوزار بالدارجة والقميص ويسمى أيضاً المصدرة، كان عدد الخياطين في السوق الوحيد في حصن القصر والذي كان يفتح أبوابه لأوقات محددة على فترتين صباحية ومسائية ويغلق قبل غروب الشمس، لايُمكّن هذا العدد الكبير الذي تم قبوله من الطلبة من الحصول على الدشاديش لقلة عدد الخياطين بالسوق، كانوا لايتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة وكانوا كلهم من العمانيين.

كان الحذاء أيضاً شرط أساسي آخر، ولايوجد بالسوق العدد الكافي من أحذية "الزنوبة" التي كانت متوفرة حينها في السوق تكفي الجميع، فقد كانت المدرسة السعيدية تعتبر مؤسسة في منتهى الانضباطية والنظام.

لايوجد إلا عدد قليل من المؤسسات الرسمية بالدولة هي؛ الجمرك (الفرضة) والبريد وهما ربحيتان تدران دخلاً على الدولة  إضافة إلى إيجار دكاكين سوق الحصن بعد توقف فرض ضريبة على الحيوانات والمواشي ومقر الوالي والقاضي اللذان كانا يشكلان معاً ما يعرف بالبرزة،هذا هو الجهاز الحكومي كله عدا مايتبع القصر من مؤسسات، والتي منها كانت تدار عمان كلها شمالاً وجنوباً.

أتذكر أنني أخذت أكثر من شهر حتى تعودت على لبس الحذاء، وكنت أنساها يومياً بعد سماع جرس انتهاء اليوم الدراسي تحت مقعد الفصل في المدرسة وأرجع حافياً إلى البيت دون أن أشعر بذلك لمسافة ليست بالقصيرة، ولا أتذكرها إلا في صباح اليوم التالي عند الاستعداد للذهاب إلى المدرسة مجددًا، خوفاً من عقاب المدرسين الذين كانوا يفتشون طابور الصباح يومياً تفتيشاً دقيقاً مركزين على أظافر اليد والحذاء ويعاقب فوراً من يخل بذلك. كان معظمنا عند وصوله للمدرسة صباحاً يتسلل أولاً إلى الفصل؛ لينتعل زنوبته التي نسيها بالأمس قبل الاصطفاف في الطابور.

أما فيما يخص الصحة فكانت لاتوجد إلا عيادة طبية صغيرة واحدة بصلالة وظفار قاطبة، تقع شرق سور الحصن على الطريق المؤدية إلى بوابة القصر الخارجية، بها طبيب واحد وعدة معاونين دربهم بنفسه والعلاج فيها بمقابل، تم فوراً فتحها للعلاج بالمجان، وعززت بطواقم طبية عسكرية.

وفي خلال أشهر من ذلك تم تأهيل مبنى قديم يقال إنه كان قد شيد ليكون عيادة كبيرة أو مستشفى صغير إلا أنه صُرف النظر عنه مع اشتداد الصراع في الجبل وأصبح هذا المستشفى بعد الترميم والصيانة مكتملاً بأقسامه الرئيسية المختلفة وزود بأعداد إضافية أكبر من الأطباء والجراحين العسكريين من دول شقيقة وصديقة وسيارات إسعاف عسكرية لمعالجة المرضى وإجراء عمليات جراحية للعديد من الحالات المزمنة التي لم يكن أمامها مجال سابقاً للعلاج سواء البقاء في المنازل مجترين الآلام بانتظار القدر.

لقد خلفت السنين السابقة أسقاما وأمراضا كثيرة ومزمنة، فكان لابد من ضرورة الإسراع بالتطبيب والعلاج مع الاستمرار في التوسعة والإضافة عليه حتى أنجز مستشفى قابوس بصلالة 1977م، بأرقى المواصفات العالمية آنذاك.

هكذا كانت همم قابوس والتي تشربها شعبه وتحولت إلى إنجاز يليه إنجاز آخر، ملحمة بناء متواصلة لقائد وشعب تستبق الزمن لتعوض مافات من السنين.

في خلال أشهر قلائل من يوليو 1970م، تم البدء في حفر آبار المياه وإقامة نقاط توزيع مياه الشرب النظيفة في معظم الأحياء السكنية، وتعزيز محطة كهرباء الحصن التي كانت تمد الحصن ومرافقه فقط بالإنارة، بمولدات إضافية ومدت أسلاك الإنارة إلى المناطق القريبة من الحصن على كافة الاتجاهات كالحافة وصلالة الوسطى وبدأت بإنارة المساجد.