العمانيون.. رحلةٌ من أجل العطاء (2- 2)

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي

كاتب وأكاديمي

 

وإذا انتقلنا للحديث عن رحلة العمانيين في طلب الرزق في دول الخليج وبعض الدول العربية فإن العامل الذي ساعد على هذه الحالات ظهور النفط في دول الخليج بدءًا من الثلاثينيات من القرن الماضي والحياة المعيشية الصعبة التي عاشها العمانيون في تلك الفترة.

وكان العمل في شركات النفط بقطاعاتها المختلفة أي لم يكن هؤلاء العمانيون عمالاً في حقول النفط فحسب؛ بل عمل بعضهم في القطاعت المرافقة كالأندية الموجودة في هذه الشركات أو الخدمات الطبية التابعة لها. كما اشتغل بعض العمانيين في قطاع الشرطة الذي بدأ يتكون بشكل بسيط في هذه الدول، قبل أن تتشكل القوات المسلحة (الجيش) ويلتحق العمانيون بأعداد كبيرة في أواخر الستينات وبداية السبعينات كما هو الحال في دولة الإمارات العربية المتحدة.

وقد أشار السير تشارلز بلجريف مستشار حكومة البحرين سابقا من (1926 حتى 1957) في مذكراته التي ترجمتها البحرين في وقت لاحق إلى أنَّه استعان بعدد من العمانيين عند تكليفه بتكوين جهاز مُصغر للشرطة.

وهذه المذكرات غنية بالمعلومات عن بدايات اكتشاف النفط في البحرين والسعودية، ومعلومات عن بعض دول الخليج التي زارها الكاتب ومن ضمنها عُمان، لذا أنصح بقراءة هذه المذكرات.

ومارس بعض العمانيين التجارة من خلال إدارة بقالات صغيرة أو العمل في هذه البقالات.

ويمكن القول إن أوائل الرحلات إلى الدول العربية كانت من عمانيي زنجبار إلى مصر مع بدايات القرن العشرين للتعليم والعمل؛ حيث كانت مصر منتعشة تجاريا واقتصاديا، وكانت حلم الأوروبيين الذين ضاقت بهم الحياة بعد الحرب العالمية الأولى.

ويتضح هذا في مذكرات الخديوي عباس الثاني الذي أشار إلى هذا الأمر؛ حيث تعد مذكراته توثيقاً دقيقاً لبعض من تاريخ مصر الحديث التي ينصح بقراءتها.

والقارئ لكتاب الدكتورة آسيا البوعلي عن الدكتورة فاطمة سالم المعمري يخرج بصورة عن المجموعات الأولى التي هاجرت من زنجبار إلى مصر ومنهم والدها وعدد من أخوالها وأقربائها ومجموعة من بني ريام وبني لمك والبوعلي.

كما تشير الدكتورة هدى الزدجالي في كتابها "العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق أفريقيا 1870-1970" إلى عدد من عمانيي زنجبار الذي حصلوا على مؤهلات عليا من بريطانيا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي ولم يتمكنوا من الحصول على وظيفة فرجع واحد منهم إلى بريطانيا بينما سافر مواطن ومواطنة للعمل في وظيفة التعليم في مصر التي كانت الوظائف الحكومية وفرص العمل متاحة فيها للجميع. كما عمل عدد من العمانيين بعد تخرجهم في الدول التي تخرجوا فيها وخاصة دول الكتلة الشرقية أو ما كان يسمى بالدول الشيوعية.

وعمل عدد قليل منهم في دول عربية أخرى كاليمن الجنوبي وخصوصا أولئك الذي انخرطوا في تنظيمات مدعومة من هذا البلد في أواخر الستينيات وبدايات السبعينات.

وعمل عدد قليل جدا من العمانيين في التدريس في اليمن الشمالي.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض العمانيين خرجوا من عمان عن طريق التهريب في قوارب إلى بعض الدول المجاورة، وغرق بعضهم في البحر خلال هذه الرحلات. وقد روى عدد من المسؤولين السابقين قصص رحيلهم من عمان بهذه الطريقة التي كان تنطوي على شيء من المخاطرة.

وكانت دعوة جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- لشعبه بالعودة لبناء الوطن عام 1970 مرحلة فاصلة في تاريخ عمان الحديث، وفيما يتصل بالعمل الذي هو موضوع مقالنا؛ حيث كان خطابه واضحاً يحمل إشارات إلى وجود فرص عمل في مجالات وقطاعات عديدة حيث لبى العمانيون هذا النداء، فرجع الكثير من أبناء الوطن الأم عمان أو من عمانيي زنجبار الذين خرجوا إلى دول عديدة بعد حدوث الانقلاب الدموي الذي خلف عشرات الآلاف من الضحايا ما بين قتيل أو مشرد.

وللمزيد حول الانقلاب عام 1964 في زنجبار وما أعقبه من آثار سلبية على العمانيين هناك نحيل القارئ لكتاب "زنجبار.. شخصيات وأحداث" للأستاذ ناصر بن عبد الله الريامي، وكتاب "مذكرات رجل عماني من زنجبار" للأستاذ سعود بن أحمد البوسعيدي.

وقد يظن البعض أن كلمة "العائدين" تعني العائدين من زنجبار وشرق أفريقيا فقط، لكن معناها أعم وأشمل من ذلك؛ فهي تشمل كل عماني عاد إلى وطنه الأم من أي دولة في العالم بعد الدعوة التي وجهها السلطان الراحل تغمده الله برحمته إلى شعبه للعودة إلى أرض الوطن.

ولعل مصدر اللبس هذا عائد إلى أن العائدين من عمانيي زنجبار من زنجبار ومن الدول التي كانوا فيها عائد إلى أنهم ربما كانوا الكثرة وكانوا أكثر تعليماً وخبرة.

وبعد هذا النداء عاد العمانيون جماعات ووحدانا، يحدوهم الأمل لحياة كريمة في وطن طالما أبعدتهم صروف الليالي عنه فالتحقوا بشتى الوظائف والمهن في مجالات وقطاعات عديدة كالمؤسسسات الحكومية والمدنية والجيش والشرطة وشركة تنمية نفط عمان "PDO".

وفي عام 1971 حدث أمر متوقع وغير متوقع، متوقع لأنه حصلت اضطرابات عمالية عديدة في السنوات الأخيرة من عقد الستينات في حقول النفط في الصحراء، كما أشار إلى ذلك والدنا وأستاذنا الشيخ خلفان بن ناصر الوهيبي الوزير الأسبق الذي تولى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية خلفاً للأستاذ عبدالله الطائي في حديثه لإذاعة الوصال. وهو أمر غير متوقع لأنه لم يمض على وصول العمانيين إلى أرض الوطن والتحاقهم بشركة تنمية نفط عمان سوى عام تقريبًا.

ولعل السبب عائد في تقديري إلى أن أغلب الذين قاموا بالاضطربات أو شجعوا عليها هم تلك الفئة المتعلمة التي عملت في شركات نفط خليجية، ورأوا أن الظروف والأوضاع العمالية في تلك الشركات أفضل مما هو عليه الوضع في الشركة المشار إليها.

ويطرح سؤال لماذا تم تعيين الأديب والشاعر والكاتب الأستاذ عبدالله الطائي وزيرا لوزارة معنية بالعمل؟ وأجيب على هذا السؤال من خلال قراءاتي لنتاجات الأستاذ عبد الله الطائي وكتابتي عنه في أكثر من مؤلف أن المرحوم الأستاذ الطائي كان يشغله الهم الجمعي العماني ومسكونا بمُعاناة الإنسان العماني في الداخل والخارج من خلال كتاباته العديدة.

وهنا يجب أن نتوقف عند أمرين، الأمر الأول هو أنه بعد الاضطرابات العمالية تمت إعادة تشكيل الحكومة عام 1972م بعد استقالة عم السلطان الراحل رئيس الوزراء السابق السيد طارق بن تيمور وترأس السلطان الراحل- رحمه الله- الحكومة بنفسه.

وليست الاضطرابات العمالية هي السبب الرئيسي لتغيير الحكومة وإنما هناك أسباب أخرى ليس المجال هنا لذكرها ولا تخفى على الدارسين والمتابعين للشأن العماني.

والأمر الثاني والأهم هو أن ملف العمل والحياة الكريمة هي من الملفات التي تولاها السلطان الراحل رحمة الله عليه بنفسه شخصيا من خلال رعايته ومتابعته الدائمة والمستمرة لهذا الملف، ومن خلال ما أعلنه جلالته من أهـداف استراتيجيـــة في هذا الجانب كان (التعمين) أو (توطين الوظائف) كما يسمى في بعض الدول على رأسها.

وقد حظي موضوع (التعمين) بالكثير من الدراسات واللجان وعُقدت من أجله المؤتمرات والندوات على مدعى العشرات من السنين.

وأرجو أن يستفيد الخلف من بعض ما تركه السلف من هذه التجربة التي استرعت انتباه العديد من المسؤولين ورجال الأعمال في بعض دول الخليج التي كنت شاهدا على إحداها خلال مشاركتي في أحد المؤتمرات ببيروت.

ومن وجهة نظري الشخصية أرى أنه لولا الرعاية الخاصة من لدن جلالته يرحمه الله لملف التعمين لما كتب له هذا النجاح الذي لمسناه.

ونود أن نشير هنا إلى أن جميع الاضطرابات والمظاهرات التي حدثت في السلطنة منذ اضطرابات عمال شركة نفط عمان عام 1971 مرورًا بمظاهرات طلاب جامعة السلطان قابوس في التسعينات من القرن الماضي وانتهاء بمظاهرات عام 2011 كانت إحدى الخطوات في التعامل معها إعادة تشكيل مجلس الوزراء.

وحدثت مظاهرات تطالب بفرص عمل في معظم ولايات السلطنة كان المشاركون فيها من الباحثين عن عمل والمسرحين من الشركات في أواخر شهر مايو لعام 2021.

وسوف ننتقل إلى الرحلة الثانية للعمانيين إلى دول الخليج كما نسميها وهي الرحلة التي استمر فيها العمانيون بالعمل في بعض دول الخليج وخاصة دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر أو رحلوا إليها بعد عام 1970 بسنوات.

وسنتوقف في هذا الموضوع عند مجموعة من المحطات لنسلط الضوء على أحوال العمانيين في هاتين الدولتين، وإن عمل عدد من العمانيين في بعض الدول الخليجية الأخرى كالكويت لكن أعدادهم كانت أقل من الأعداد في تلكم الدولتين.

سافر عدد كبير من العمانيين للعمل في أبو ظبي في أواخر الستينات من القرن الماضي بعد اكتشاف النفط بكميات تجارية للعمل في القوات المسلحة والشرطة وبعض الشركات، وسافروا للعمل في هذه القطاعات بعد إقامة الاتحاد أي تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971.

وبعد الدعوة التي وجهها السلطان الراحل للعمانيين للعودة إلى أرض الوطن فضل بعض العمانيين العمل في دولة الإمارات في كل من أبو ظبي والعين ودبي والشارقة ورأس الخيمة وبعض الإمارات الأخرى. وبعد عدة سنوات من العمل بدأ الاستغناء عن خدمات مجموعة من العمانيين في أبوظبي والعين وعادوا تباعًا إلى أرض الوطن.

وقبل سنوات تم الاستغناء عن خدمات مجموعة كبيرة من العمانيين العاملين في القوات المسلحة في دبي، فعادوا إلى وطنهم وتم إلحاقهم بما سمي حينها بقوة الاحتياط، وصُرفت لهم مكافأة شهرية رمزية.

ونما إلى علمي أنَّه تم عرض الجنسية على العمانيين الذين سافروا للعمل في أبوظبي أواخر الستينات من القرن الماضي وعلى مجموعة من الذين عملوا في الجيش بصفة خاصة بعد تأسيس الاتحاد في بداية السبعينات. وقدم عدد من العمانيين طلب الجنسية بعد توقف فرصة عرض الجنسية بسنوات فحصل مجموعة كبيرة من العمانيين على جنسية دولة الإمارات في أبوظبي والعين ودبي والشارقة ورأس الخيمية وبعض الإمارات الأخرى.

وأرى أنَّ كل محاولات الحصول على جنسية دولة الإمارات أو غيرها من دول الخليج هي إحدى محاولات كسب الرزق على اعتبار أنَّ المتقاعد الحاصل على الجنسية في هذه الدول يحصل على راتب تقاعدي يضمن له ولأسرته حياة كريمة وقد صدر مؤخرا مرسوم سلطاني يمنح المتقاعدين العمانيين من القطاع العسكري في دول الخليج رواتب تقاعدية، وإن كان تأخر قليلا.

كما نود أن نشير هنا إلى أن عدد العمانيين الذين كانوا يعملون في قطر وحدها بلغ 13 ألفاً تقريباً في سنة من السنوات. وكثرت مؤخرا أعداد الباعة الجائلين على شوارع كثير من الولايات طلباً للرزق بعد أن كان هذا النوع من الأنشطة التجارية يُعد مخالفة، لكن الواقع فرض نفسه فتحولت إلى مهن شبه مشجع عليها من قبل الدولة.

وأخيرًا.. نود أن نكون قد أعطينا موضوع رحلة العمانيين في طلب الرزق ما يستحقه من دراسة وبحث.

تعليق عبر الفيس بوك