خالد بن سعد الشنفري
عملية التحويل المالي للمُغتربين في دول الخليج البترولية إلى الداخل كانت مُشكِلة بحد ذاتها، إلا أنَّ تجار سوق الحصن بصلالة. أصحاب الدكاكين الفضلاء توصلوا إلى طريقة؛ لتجاوز هذه الإعاقة، فقد كانت عملية التحويل تتم عن طريق إرسالها إلى تجار جملة معروفين في عدن لصالح تاجر مُعين في صلالة، يقوم تاجر الجملة العدني بإرسال قيمة هذه المبالغ في شكل بضائع للتاجر العُماني المحولة لصالحه في صلالة حسب طلبه للنوع والكمية التي يرغب في استيرادها من البضائع؛ وليقوم بدوره بتسليمها لأسرة مرسلها المغترب أو من يوصي له نقداً أو بضاعة حسب رغبته ودون أن يتقاضى هذا التاجر أي زيادة أو مُقابل على ذلك.
كانت عملية تفترض منتهى الثقة بين الأطراف الثلاثة جميعاً وعاش الناس لسنين على هذا الأسلوب- كان فعلاً زمن الطيبين بحق- تجاوزوا جميعاً محنتهم بطيبتهم وتعاونهم وثقتهم اللا محدودة ببعض.
كان معظم الكبار مسافرين للعمل في الخارج تاركين الوطن والأهل والعائلة والزوجة والولد، لم يتبقَ في البلد إلا كبار السن وصغاره والنساء ممن ليس لهم القدرة على السفر، كان هذا هو حال جميع العائلات العُمانية، الاغتراب وهجرة الوطن؛ بحثاً عن الرزق والعمل الذي شحَّ وتعذَّر في الداخل.
وقد عظّم من قسوة هذا الاغتراب انقطاع عُمان عن العالم فلا اتصالات ولامواصلات ولا طرق تربطها. حتى بالدول المجاورة والرسائل البريدية في ظل هذا الوضع تستغرق شهوراً طويلة لتصل إلى الداخل أو الخارج وبعد منع السفر للخارج تماماً في السنوات الأخيرة قبل النهضة أصبح التواصل بينهم شبه محال مما ضاعف من قسوة ذلك على الجميع.
بادرت عمي مُعاتباً إياه، مع ما خامرني من فرح بقدومه، سألته: لماذا تأخرت ياعم؟!، لماذا لا أحد في المزارع من الكبار اليوم؟ سيل من الأسئلة طرحتها عليه دفعة واحدة، ردَّ عليَّ بكلمات سريعة مقتضبة وكأنَّه يكلم نفسه؛ انقلاب، السلطان قابوس تولى العرش في البلاد، سيخرج السجناء ويعود المسافرون من الخارج، والدك سيعود وعمك سيعود الجميع سيعود من السفر، وتركني بعد أن اطمأن على وضعي، ورجع مهرولاً من حيث أتى.
لم أفهم شيئاً من المُقدمة التي قالها إلا أنَّ جملة والدي سيعود من السفر هي ما زلزل كياني، أبي الذي لا أتذكره شكلاً بوضوح بل طيفاً بخيالي، أو أنني أنا الذي صنعت له هذا الطيف الخيالي من خلال كلام جدتي عنه.
لم تعد أشباح المزارع المظلمة ولا الدنيا كلها قادرة على إخافتي بعد سماعي خبر رجوع والدي، سرت الطمأنينة في كل كياني، أنزلت العصا التي أهش بها على الحمار والأبقار وكنت شاهراً إياها عالياً بيدي، لإخافة الأشباح إذا ظهروا لي وسط المزارع، وظللت أسرح بفكري كيف سيكون لقائي للمرة الأولى مع أبي حين يعود من الغربة، ونحن لانعرف شكل بعضنا، ومن منِّا سيتعرف على الثاني أولاً.
في منتصف الطريق وسط المزارع لمحت طيفاً أسود كالشبح يتجه ناحيتي مسرعاً؛ لكن خوفي كان قد انقشع الآن وسمعت الصوت موجهاً ناحيتي، كانت امرأة عجوز ترتدي ثوبا أسود، تحث السير نحوي متسائلة بصوت لاهث قائلة: هل خرج المساجين يا ولدي إن لي ولدٌ مسجون لم أره منذ سنين، كانت إجابتي حاضرة وسريعة نعم يا خالة خرجوا والحمدلله واصلي مسيرك إلى المدينة لتلتقي بابنك من جديد.
وصلت إلى البيت فوجدت العائلة كلها مُجتمعة حول جهاز مسجل الأسطوانات (الفونغراف)، وكان عمي الذي سبقني مهرولاً إلى البيت دون أن أفهم لذلك سبباً يدير مؤشر جهاز الأسطوانات الذي أصبح بقدرة قادر مذياعاً يبث أخبار إذاعة بي بي سي لندن العربية، لقد كان عمي يخفي علينا طوال الفترة السابقة أنَّ هذا الجهاز الفونغراف يتضمن بداخله راديو، لا زلت أتذكر شراؤه له من أحد العاملين بمحطة القاعدة البريطانية بصلالة منذ فترة بمبلغ يعتبر باهظاً حينها وكنا مستغربين من ذلك، لا شك أنه قد دفع هذا الثمن الكبير كي لا يكتشف أمر الراديو ويعود لسجن الحصن مرة أخرى.
لم يعد اليوم جهاز الراديو ممنوعاً في عمان؛ هنا أحسست ببدايات التغيير الذي سيطرأ على حياتنا.
ذهبت صباح اليوم التالي مع الجموع الذاهبة نحو القصر، ذلك القصر الذي كنَّا نراه مُخيفاً صامتاً تحول إلى مكان جاذب مؤنس لمن كانوا يخشونه بالأمس، وأصبح حضناً للجميع، يتدفقون عليه يومياً من كل نواحي ظفار، من شروق الشمس حتى مغيبها، تعج ساحاته بكل أطياف المواطنين، بدءًا من ثاني أيام الثالث والعشرين من يوليو 1970م، لقد أصبح هذا المواطن الذي كانت أقل مساحات حريته مقيدة، يعيش بنفسه اليوم انفتاح كل هذه القيود بدون استثناء، بل أصبح منفذاً بنفسه للقصاص ممن يعلم بأنَّه ناله منهم ضرراً بتجسسهم على حركاته وسكناته.
كنت طفلاً متفرجاً على هذه الأيام الثلاثة الأولى من هذا الحدث الجلل من عصر النهضة المباركة، كان الناس يدخلون جماعات إلى ساحات القصر ويتحركون أفواجاً، تارة إلى جدرانه في أقصى غرب الساحة حيث يقبع سجن الحصن يضربون على جدرانه وأبوابه الحصينة بقبضاتهم وعصيهم ويسمعون من بداخله من المساجين كلمات مثل:
ستتحررون من سجنكم ستخرجون، قابوس جاء.
قابوس المخلص أعتلى العرش، نحن الشعب، وتارة أخرى وأثناء جولاتهم وأهازيجهم في أرجاء الساحات يمسكون بتلابيب من يكون قد فاحت رائحته كجاسوس للنظام السابق ويصادفونه أمامهم.
يا الله، ياله من منظر جلل في يوم جلل، فرحاً واستبشاراً على كل الوجوه التي عادت إليها الحياة مجدداً، وسرت البشرى في شرايينها.
من سمح لهم بذلك ياترى؟!
من أعطاهم هذا الحق وهذه السلطة؟!
نحن في حصن ومقر حكم، كان مخيفاً، وهناك جيش وسيارات عسكرية مدججة بالسلاح ودبابات؛ لكن اليوم فوهات بنادقها ورشاشاتها ومدافعها هذه المرة منحنية للأسفل، احتراماً لهذا المواطن الذي طالما نكل به وذل إذلالاً.
ما أعظمك يا قابوس، نزلت إليهم والتحمت بهم كتفاً بكتف في أول يوم لك على العرش وألقيت فيهم خطابك التاريخي، تركت لهم بعدها على مدى ثلاثة أيام مطلق الحرية ليفرغوا ما كان تراكم في صدورهم من ضيق وحزن وظلم سنين طوال، وشرعت لهم كل أبواب قصرك وساحاته ليصبح ما كان بالأمس فيه طارداً جاذباً لهم اليوم؛ وليفرغوا ماتراكم فيهم من شحنات مآسي حزن عصر كئيب سببها حزن آلام سنين طالت.
فوجئت وسط الجموع المحتشدة في ساحات القصر بدخول لوائح، نراها لأول مرة في حياتنا تمثل مختلف مناطق صلالة وظفار، لوحة صلالة، لوحة الحافة، لوحة الدهاريز، لوحة عوقد، ومختلف المناطق، لوحات من قماش بيضاء كتب عليها باللون الأحمر عبارات المبايعة والتهنئة والمباركة للسلطان الجديد "قابوس" ولأنفسهم بهذه النهضة المباركة بإذن الله.
رغم سني الصغير إلا أنّ استيعابي لما يدور حولي وإدراكي له انتقل فجأه؛ ليلتقط ويحتفظ بهذه اللحظات ويستوعب الحدث أمامه؛ لتنساب اليوم هذه الذكريات بعد نصف قرن من الزمن، لاشك أنها كانت أيام استثنائية من العمر واستثنائية في عُمان كلها تلتصق بالذاكرة ولاتمحى أبداً، هذه أولى بدايات ماسطره قابوس فينا جميعاً حتى نحن الصغار.
السلطان الشاب المنقذ المخلص الزعيم الذي أصبح ملهما للشعب وشبابه، بعد أن التحم بالأمس مع جموع المواطنين جنباً إلى جنب، ظل اليوم في قصره وعلى كرسي عرشه مع مستشاريه يدير ويدبر الأمور للمرحلة القادمة على أصوات وأهازيج وهتافات شعبه تصدح مجلجلة:
عاشت عينه قابوس
لارجعية ولا جاسوس
هكذا بالدارجة الظفارية، وبكل بساطة ودون أن أن يلقنوا أو يختار لهم أحد ما يقولون ويعبروا به.
صلالة جزء من عُمان المترامية الأطراف، والمهام الجسام لمن أعتلى عرش بلد عظيم بعظمة هذا الشعب المناضل وتاريخه العريق وجغرافيته المتنوعة التضاريس وعظمة عُمان التاريخ، لاشك ستكون عظيمة بعظمة هذا البلد.