خالد بن سعد الشنفري
هذه قصاصات ورقية لِما عايشته طفلاً، وبداية الشاب في العقد الأول من النهضة المباركة.
الزمن: ظهيرة يوم الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970.
كنتُ في التاسعة من العمر حينها تقريباً، أقول تقريباً؛ لأنه قبل هذا التاريخ لا يوجد في عمان كلها مستشفيات للولادة أو للعلاج من أساسه.
لم تكن هناك شهادات ميلاد تُصرف للمواليد، وأية شهادة ميلاد صرفت بعد هذا التاريخ دوّن بها تاريخ موحد للجميع، (يوم وشهر الميلاد) هو اليوم الأول من يناير 1/1/... من كل عام). وقد سُنِّنت طبيًا من مواليد 1/1/1961م، وأصبح هذا التاريخ الافتراضي ملازماً لي إلى اليوم.
كنا نُولد ونموت في غرف النوم، يقال إنني ولدتُ قبل أو بعد إعصار الحيمر (عام الغريقة) بمدة قد تزيد أو تقل سنة أو سنتين تقريبًا. وفي ظهيرة هذا اليوم كانت عائلتنا مجتمعة على صحون الغداء في البيت الممتد بعدد أفراده، وليس بكبر حجمه في منطقة الحافة جوار قصر الحصن.
كانت البيوت تضم الجد وأبناءه الذكور وعائلاتهم وأحفادهم، وقد يمتد نسيج بعض هذه العائلات في البيت الواحد اتساعًا رأسيًا أو أفقيًا، وما ساعد على استمرار هذا النمط من الحياة كانت الأوضاع الاقتصادية وضيق ذات اليد؛ لقلة العمل وشحة الدخل من المهن المختلفة البسيطة التي تستقيم بها حياة أي مجتمع بشري؛ كالزراعة والصيد والرعي وتربية الحيوانات، إضافة إلى سيل الممنوعات التي فرضت تباعًا، ومنها عدم السماح ببناء منزل جديد أو إضافة أو تعديل على منزل قائم في كافة مناطق صلالة إلا بموافقة من السلطان، وقد تصل عقوبة المخالفة السجن لمدة عام.
كنتُ أكبر حفيد سناً لهذه العائلة، سُجن جدي لمدة سنة، رغم أنه قد ناهز السبعين من العمر، لمجرد قيامه بترميم بسيط لجوانب بوابة البيت الخارجي كي لا تسقط. قضى منها جدي ثلاثة أشهر في سجن الحصن بصلالة حتى جاءت الموافقة بعد حثيث متابعة على أن يستبدله عمي؛ ليكمل السجن بدلاً عنه للتسعة أشهر المتبقية من المحكومية.
كنا طوال مدة هذا العام نوصل إليهما وجبتي الغداء والعشاء مشيًا على الأقدام أو على ظهور الحمير، فلا مواصلات كانت توجد بصلالة سواها، ونظام السجن لا يقدم الطعام للسجناء فيتقاسمون الطعام فيما بينهم، فقد كان بينهم سجناء من مناطق أرياف ظفار البعيدة ونجدها وبواديها، ليس لهم أهالي في المدينة؛ لجلب الطعام لهم يوميًا.
كنا ظهر ذلك اليوم مجتمعين نتناول اللقيمات الأخيرة من غدائنا؛ فسمعنا أزيز أصوات طائرات (الاسترايك ماستر) يتكرر بكثافة في الأجواء، كانت طائرات قاذفة إنجليزية صغيرة قديمة الصنع منذ الحرب العالمية الثانية على ما يبدو، وليس لها صخب كطائرات (الهوكر هنتر) الأمريكية المقاتلة والتي أُدخلت الخدمة بعد ذلك، وبعد أن أصبح لدى الطرف الآخر المستهدف منها، ثوار جبهة تحرير عمان والخليج العربي (آخر مسمى لها) قد حصلوا على أسلحة وصواريخ ثقيلة من المعسكر الاشتراكي الداعم لهم، وبسبب تزايد أنشطتهم.
طائرات الاسترايك ماستر كانت المملكة المتحدة البريطانية الصديقة قد أهدت السلطان سعيد بن تيمور عددًا بسيطًا منها في أواخر الستينات من القرن الماضي؛ لقدرة هذه الطائرة على التسلل خفية بين الوديان والشعاب في جبال ظفار؛ لتقتنص أهدافها، كان أزيزها في ذلك اليوم مقترناً بأصوات زخات طلقات أسلحة رشاشة لم نتعود على أصواتها داخل المدينة، كانت الأسلحة المسموح بها في المدينة حينها تقليدية غير أتوماتيكية تستخدم في مناسبات المواطنين كالأعراس والأعياد والمناسبات.
وعلى وقع تلك الأصوات غير المألوفة، سحبت يدي من الطعام بسرعة ونفسي تشتهيه وانطلقت برعونة الطفولة كالسهم ناحية مصدر تلك الطلقات، ووصلت إلى آخر البيوت غرب منطقة الحافة ناحية السور الخارجي لقصر الحصن، مقر السلطان سعيد بن تيمور.
لم يدر بذهني حينها أن التاريخ يصنع هنا اليوم من جديد. وتجمهرت مجموعة من الناس من مختلف الأعمار، لا أحد فيهم على ما يبدو يعلم ماذا يجري، لم نستطع التقدم خطوة إلى الأمام؛ حيث فوهات البنادق والرشاشات على ظهور سيارات اللاندروفر العسكرية موجهة إلينا والجنود المتلثمين بالمصرات العسكرية لا يُرى منهم إلا عيون تتحرك.
هناك أيضًا في الناحية الشمالية للسوق وسط المزارع جنود في حالة استعداد تام وقوفًا وانبطاحًا على الأرض، وأيديهم على زناد بنادقهم ورشاشاتهم، وآخرون يحملون برقيات اللاسلكي، كانت السترايك ماستر تمشط الأجواء جيئة وذهابًا على الحصن والمنطقة.
ماذا يجري يا ترى؟! شيء لم نألفه من قبل.
نشخص نحن الصغار أبصارنا ونشنف آذاننا؛ لنلتقط أي كلمة شاردة أو واردة من الكبار الذين تجمهروا؛ لمعرفة ماذا يدور، لكن لا أحد ينبس ببنت شفة، إنه الخوف في زمن الخوف، حتى الأخ كان يخاف من أخيه، لا أحد يرغب حتى في مجرد التفكير في اقتياده إلى سجن حصن صلالة البغيض، أو سجن جلالي مسقط المرعب الذي أقل ما يوصف به بأن الداخل إليه مفقود؛ فلم يعرف أن أحدًا دخله وخرج منه!! فقد جُنِّدَت حتى بعض العجائز؛ للتنصت ونقل أي خبر يدور بين الناس عن الثوار، وبلغ التوجس بين الموطنين إلى حد تناقل أخبار أنهن مزودات بأجهزة تسجيل صغيرة مخفية وسط ملابسهن لتسجيل ما يدور بين الناس.
قبل سنوات اقتيدت لسجن جلالي مسقط، دفعة من حوالي 60 شابًا من أبناء ظفار لا يُعرف عنهم أي خبر طوال هذه المدة. ولم يكن يَصل إلى مسامعنا من وسط ذلك التجمهر إلا كلمات تقال، مثل: الله ينصر السلطان سعيد بن تيمور، إنه استعراض عسكري له، وما شابه ذلك من الكلمات، إلا أن أذني التقطت كلمات حميمية مخنوقة تدور همسًا بين اثنين من الكبار تنحو جانباً يوشوشان لبعضهما خلسة: إنه قابوس.. إنه انقلاب.. إنه العهد الجديد لعُمان.
لم أفهم ماذا يعني ذلك كله، أو حياة أخرى يعيشها بشر في أي مكان من العالم سوى ما كنا نعيشه هنا، ولم استوعب ما يعني الفارق بين عهدين، رغم أنني قد شاهدت مراراً قابوس أثناء ذهابي؛ للتسوق في سوق الحصن الواقع داخل نطاق أسوار الحصن والمقابل لبوابته الرئيسية وملحق به من الجنوب ناحية البحر ما يعرف بأنه مقرًا لقابوس، بعد أن عاد إلى صلالة قبل عدة سنوات من رحلته الدراسية في الخارج.
لم يُوكل السلطان سعيد بن تيمور لابنه قابوس بعد عودته من الدراسة أي مهمة رسمية، وظل قابوس طوال هذه الفترة رهين قصر إقامته عدا من يزوره من الأساتذة المعلمين العمانيين الأجلاء الذين توالوا على تدريسه علوم اللغة العربية والشريعة الإسلامية وثقافتها، وتاريخ عُمان وقبائلها، بعد أن تخرج من أرقى الكليات العسكرية في العالم في بريطانيا، واشترك عملياً في التدريبات العسكرية لمدة 6 أشهر مع القوات البريطانية في معسكرها في ألمانيا الشرقية إبان الحرب العالمية الثانية، وتلقى دراسات ودورات مكثفة في الحكم المحلي في بريطانيا، وزار بعدها معظم دول العالم المتحضر في ذلك الوقت في رحلة استغرقت ثلاثة أشهر.
كنا نلحظه أحيانًا في جولة قصيرة له على شاطئ البحر بجوار مبنى الفرضة ومنطقة تنزيل البضائع من السفن الخشبية بواسطة السنابيق أو ما يعرف بـ"أمير البحر" بواسطة التجديف، كان يتمشي أحيانًا على شاطئ البحر بلحيته الكثة الكثيفة وجسده النحيل، يرافقه اثنان من حراسه، لم يكن أحدًا منا يتجرأ على الحديث معه عن قرب (يقال إن ذلك ممنوع)، إلا السلام عليه بالإشارة عن بُعد.
كنا قد جُبلنا على وضعنا هذا حتى أصبح روتينًا معاشًا.
وكلما كان يعنيني شخصيًا، أن لا أتأخر عن مهام عملي اليومي الذي أمارسه كالآلة الصماء؛ لذا رجعت عائداً إلى البيت؛ لتأديته؛ أشد على سرج حماري، والركوب عليه لأتجه إلى المزرعة؛ لتكملة عملي لفترة ما بعد الظهر والغداء، أعود بعدها آخر النهار بقطيع الأبقار بعد تحميل حشائش طعامها الليلي على ظهر الحمار إلى حوش بيتنا الخلفي.
بدأ لي عصر هذا اليوم في المزرعة والمزارع المجاور لها غير عادي أيضًا كظهيرته، اليوم كله يوماً غير عادي على ما يبدو وينبئ بحدث جلل.
لقد قارب الوقت على الغروب ولا حياة ولا حركة تدب في المزارع، وعلى غير العادة تمامًا، وما كانت تعج به من حياة وحركة كل يوم، هدوء غريب مريب يكتنف المكان، لم يعنني صغر سني وضعف التعليم الذي كنا نتلقاه في مدرسة المعلم الواحد الأهلية ومحدوديته داخل بيوتهم من الاستنباط وأعمال العقل والفكر، فلم يسعفني حتى مبدأ أو مقولة إن الهدوء الشديد يسبق العواصف عادة.
ظللتُ أسأل نفسي وأنا في حيرة من أمري، أين الناس، أين حركة المزارعين وتزاورهم وأحاديثهم لبعض؟! لم يكن أمامي إلا انتظار الفرج علّ أحد يمر.
مرّ الوقت ولا بُد من المغادرة إلى المدينة، لا بُد من الاستعداد؛ لتحميل الحشائش على ظهر الحمار وإطلاق القطيع وقيادته، فرغم أن عصر سرقة الحيوانات أيام ضيق العيش سابقاً (كما سمعنا) قد ولى وانتهى؛ لتزايد عسكر وعسس الحكومة إلا أن جميع أصحاب المزارع كانوا يحرصون على اصطحاب حيواناتهم إلى البيوت لحلبها مساءً وصباحاً؛ ولأنها ستكون أشبه بالمال السائب في تلك المزارع البعيدة عن السكان.
في انتظاري الطويل؛ لظهور من يعينني تزايد لدي القلق وأصبح يتحول إلى خوف، حاولت التماسك بانتظار الفرج، حتي قيض الله لي أحد المارة من الكبار، ساعدني في مهمتي، فبدأت بتسيير قطيعي رغم الظلمة التي أخذت تتسلل إلى المكان ورغم ما كان يعشعش في أذهاننا نحن الصغار آنذاك عن الظلام في المزارع ووسط (مقاييف) طرقاتها التي تصطف على جانبيها نخيل النارجيل وأشجار موز أبو بقرة ذات الساق الطويل التي تطاول النخيل ارتفاعاً وما يشكله ذلك من ظلال ثقيل عليها نهاراً وظلام معتم ليلًا وارتباط ذلك كله بالأشباح والجن والعفاريت التي كانت تروى قصصها الخيالية علينا في جلسات سمرنا؛ حيث لا تلفزيون يُشاهد ولا مذياع يُسمع ولا كتاب يُقرأ، فنتسمر لسماع تلك القصص التي ما أنزل الله بها من سلطان، فلا بديلًا ثقافيًا آخر ينهل منه الأطفال في ليالينا المظلمة سوى سراج الفوانيس الخافتة التي لا يتجاوز نور إضاءتها محيطها.. ظلام في ظلام حيثما شطرت وجهك.
في طريقي إلى البيت بالحافة لمحتُ عمي، قادماً مهرولاً ناحيتي والفرح يغمر أسارير وجهه.
كان عمي قد عاد إلى صلالة من الخليج منذ عدة سنوات؛ حيث كان يعمل هناك وقد عاد بالاتفاق مع إخوته الإثنين الآخرين الأكبر منه سنًا: والدي وعمي الآخر؛ ليبقيا هما في أعمالهم هناك في الخارج للعمل وإعالة العائلة، ويعود هو ليتزوج ويكمل نصف دينه ويساعد والده المسن على إدارة شؤون العائلة المكونة من أسرته الجديدة وأسر إخوته الإثنين والوالد والولدة.
والدي وعمي الآخر مغتربان منذُ سنوات للعمل في الخارج، لا أكاد أتذكر ملامح وجوههم، كان والدي قد غادرنا وعمري 3 سنوات وها أنا قد بلغت التاسعة من عمري ولم أره. والسبب في الغياب الطويل لهؤلاء المسافرين، وعدم عودتهم إلى الوطن هي مشقة السفر التي كانت تستغرق رحلة الذهاب أو الإياب لعدة أشهر على متن سفن تحميل البضائع الخشبية الصغيرة التي يسهُل وصولها لقرب الشاطئ مقابل فرضة سوق الحصن؛ لتنزيل البضائع ولعدم وجود رصيف بحري، وأيضًا تنامي الثورة في جبال ظفار.
ورغم تسوير صلالة كلها من البحر إلى البحر من ناحية الجبل شمالاً للحيلولة دون التحاق الشباب بالثوار في الجبل وقطع الإمدادات من المدينة عنهم، تم أيضًا منع السفر بحراً تماماً؛ ولنفس السبب، ولم يعد بإمكان أي مسافر مغترب العودة مرة أخرى؛ إلى عمله في الخارج إذا رجع إلى الوطن؛ فاكتفوا بالبقاء في أعمالهم متحملين آلام الغربة والفراق؛ لإعالة عائلاتهم وتحويل الأموال من هناك.