مدرين المكتومية
عاش الشعبان العماني والسعودي خلال اليومين الماضيين فرحة غامرة لم يشهداها منذ وقت طويل، فرحة ممزوجة بشعور وطني خالص بوحدة المصير والهدف المشترك، فرحة بأول لقاء رسمي بين حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- وأخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، فرحة تجلت وانعكست في الكثير من المشاهد التي رافقت هذه الزيارة الميمونة المباركة.
ولا شك أنَّ الاحتفاء الملكي السعودي بالزيارة السامية لجلالة السلطان المعظم، كان ظاهرًا منذ الدقيقة الأولى التي دخلت فيها الطائرة السلطانية "الطائر الميمون نزوى" الأجواء السعودية؛ حيث حلقت الطائرات الحربية السعودية بلونها الأخضر الزاهي حول الطائرة السلطانية، في مشهد احتفائي مهيب، وكأن مراسم الاستقبال قد بدأت في الجو قبل الأرض، ثم ما لبثت الطائرة السلطانية أن تهبط على المدرج حتى انطلقت طائرات سعودية أخرى ترسم ألوان العلم العُماني، ليكون بعدها صاحب السُّمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي في مقدمة مستقبلي جلالته عند سلم الطائرة، لتنطلق بعدها مراسم الاستقبال والحفاوة الكبيرة.
هذا المشهد كان كافيًا ليعلم القاصي والداني عُمق العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين، ويبعث برسائل مباشرة وغير مباشرة لماهية التعاون المُثمر بين الجانبين في مختلف المجالات، وهو الأمر الذي أكده بوضوح لا يقبل التأويل البيان المشترك الصادر عن السلطنة والمملكة في ختام زيارة جلالته. وقبل أن أتطرقُ إلى البيان، أشير إلى المباحثات الرسمية التي عقدها جلالة السلطان- أعزه الله- مع أخيه الملك سلمان، والتي أقيمت في أجواء أخوية تحفها المحبة المتبادلة والابتسامات الصافية، والنية الصادقة لإحراز تقدم ونقلة نوعية في طبيعة العلاقات البينية. هذا إضافة إلى المباحثات التي أجراها أصحاب المعالي الوزراء الذين رافقوا جلالته في هذه الزيارة، وعقدوا اجتماعات مع نظرائهم السعوديين، ستظهر نتائجها خلال الفترة المُقبلة بإذن الله تعالى.
وبالعودة إلى البيان المشترك الصادر عن البلدين في ختام الزيارة، علينا أن نسلط الضوء على جملة من المحاور والنقاط، التي لا يجب أن تمر مرور الكرام؛ بل يتعين البناء عليها وجعلها نقطة انطلاق نحو مُستقبل أكثر رحابة وإشراقًا وازدهارًا، لكلا البلدين، في شتى المجالات، وعلى رأسها الاقتصاد، الذي سيكون عنوان المرحلة. البيان المشترك ارتكز على محورين رئيسيين؛ الأول: التعاون في مختلف المجالات وصولًا للتكامل الاقتصادي المنشود، في حين أن المحور الثاني رسخ لمبدأ التنسيق المشترك والتوافق البناء حيال العديد من القضايا، خاصة تلك ذات البعد الإقليمي والدولي.
البُعد الاقتصادي في علاقات البلدين تلقى زخمًا هائلًا بفضل هذه الزيارة؛ حيث اتفق الجانبان على أهمية الإسراع في افتتاح الطريق البري المباشر بين البلدين، ولعل التوصيف الأدق الذي تضمنه البيان في هذه النقطة، الحديث عن تكامل سلاسل الإمداد، وهذه نقطة بالغة الأهمية، فالعالم أجمع يسعى الآن إلى تكامل سلاسل الإمداد، بمعنى أن حركة الشحن والتجارة تسير في سلسلة معلومة مُسبقًا من نقطة لأخرى، فمثلًا الصادرات السعودية يمكنها أن تشق طريقها من الأراضي السعودية لتعبر الحدود العمانية من خلال المنفذ البري في الظاهرة، لتنتقل بعدها إلى منظومة الطرق العمانية ذات الجودة العالمية، لتحط الرحال في أحد موانئنا المجهزة على أعلى مستوى، سواء الدقم أو صحار أو صلالة، لتبدأ إثر ذلك رحلة جديدة نحو شبه القارة الهندية أو شرق آسيا بشكل عام، أو في الجهة الأخرى تتجه إلى شرق أفريقيا؛ حيث واحد من أكبر الأسواق الاستهلاكية حول العالم. هذا التكامل اللوجستي من شأنه أن يُحقق انتعاشة اقتصادية كبيرة، ويفتح الباب أمام رواد الأعمال من كلا البلدين لتأسيس مشاريع مشتركة تعود بالنفع عليهم.
الاستثمارات المشتركة أيضًا لم تغب عن مباحثات القادة، ولذلك أكد البيان المشترك إطلاق مبادرات ثنائية للاستثمار في الدقم ومجالات الطاقة والأمن الغذائي مع تعزيز التعاون في مجال البيئة في ضوء مبادرة الشرق الأوسط الأخضر التي أطلقتها المملكة، وهنا من المتوقع أن نشهد تحولًا كبيرًا في مشاريع إعادة التدوير وجهود صون البيئة والحفاظ عليها.
إحدى النقاط المحورية التي تضمنها البيان كذلك، الإشادة بجهود تحالف "أوبك بلس" بقيادة المملكة في تحقيق استقرار وتوازن أسواق النفط، مع التأكيد على ضرورة الاستمرار في التعاون لدعم استقرار الأسواق البترولية، وهنا يجب أن نقف لنُمعن التفكير في هذا الجانب، فالتراجع الحاد في أسعار النفط وتأثيراته على ميزانيات الدولة النفطية، عالجته منظمة أوبك بالتَّعاون مع الدول المنتجة للخام من خارج المنظمة في إطار ما يعرف بتحالف "أوبك بلس"، والذي بات الإطار المرجعي لجميع منتجي النفط حول العالم، وساهم إسهامًا كبيرًا في ارتفاع الأسعار ووصولها لمستويات أقل ما يمكن وصفه به أنها أسعار عادلة، على الأقل بالنسبة لمنتجي النفط التقليديين.
أما المحور الثاني المتمثل في التنسيق المشترك والتوافق البنّاء بين البلدين حيال عدد من القضايا الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الملفان اليمني والإيراني، فقد أسفرت المحادثات عن تطابق وجهات النظر لإيجاد حل سياسي شامل للأزمة اليمنية قائم على المبادرة الخليجية، وعلى ما طرحته المملكة الشقيقة من أفكار لدعم اليمن الشقيق ومساعدة الشعب اليمني على إعادة بناء دولته، بما يحقق الاستقرار والأمن في المنطقة، خاصة في منطقة باب المندب، الذي يمثل شريانًا تجاريًا دوليًا بالغ الأهمية. كذلك الحال فيما يخص الملف النووي والصاروخي الإيراني، فقد أكدت السلطنة والمملكة التعاون والعمل الجدي والفاعل تجاه هذا الملف، الأمر الذي يعكس الرغبة الأكيدة للبلدين في إحلال السلام والوئام بين دول المنطقة على أساس مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
وأخيرًا.. لا شك أنَّ هذه الزيارة قد أتت ثمارها اليانعة في اللحظة التي أُعلن عنها، وبدأت النتائج تتحقق مع وصول جلالته إلى أرض المملكة العربية السعودية، لكن يبقى التأكيد على ضرورة إسراع المسؤولين في كلا البلدين في تنفيذ وترجمة الأفكار والمبادرات التي جرى التوافق عليها ومن ثم تحويلها إلى مشاريع على الأرض تحت إشراف مباشر من قيادتي البلدين، وفي إطار مجلس التنسيق المشترك، والذي يُعوَّل عليه الكثير لإنجازه.. وإننا على يقين بأنَّ المستقبل واعد بين عُمان والسعودية بأمر الله تعالى.