مدنٌ بلا ظلالٍ

 

أحمد الرحبي

في ظل تطبيق إجراءات التباعد بسبب جائحة كورونا، تكشفت الكثير من أوجه القصور، في تصميم المنشآت والمباني في مدننا، وفي المرافق العامة، ومساحات النطاق العام في هذه المدن، فلدى تطبيق إجراءات التباعد، والتقيد بالعدد المسموح تواجده في أية قاعة خدمية أو مطعم أو مقهى، كانت الإشكالية أن مصير أعداد كبيرة ممن يتحينون فرصتهم للدخول سواء لتخليص معاملة في قاعة تخليص معاملات (مثل البنوك ومحلات الصرافة) أو الدخول إلى مطعم أو مقهى، كان مصيرهم الانتظار تحت أشعة الشمس الحارقة.

وتوافر أروقة مظللة منذ البداية، في المباني والمنشآت، وتصميم هذه المباني والمنشآت بمساحات مظللة، يجعلها أكثر اندماجًا في وظيفتها ما بين الداخل والخارج، مما يُعزز دور هذه المباني والمنشآت في النطاق العام للمدينة، ويجعل من المدينة كتلة معمارية متكاملة، ذات دور وظيفي متكامل، يستجيب لمتطلبات حياة السكان، لا كتل أسمنتية متباعدة.    

واتساع رقعة الظل في مكان يشهد في الصيف درجات حرارة تشارف الخمسين درجة مئوية، مع رطوبة خانقة، تُشكل فارقًا كبيرًا في تحمل الحرارة العالية والرطوبة الشديدة؛ حيث توفر الظلال مطلبًا ضروريًا للتعايش مع شدة الحرارة في المكان؛ لتسهيل حركة الناس وتنقلهم في الأماكن العامة؛ بل ومُمارستهم نشاطهم النهاري والاستمتاع بالحياة بمستوى أقل من الانغلاق داخل المباني المكيفة، فالمقاهي والمطاعم على سبيل المثال، والمحلات والأسواق، التي يرتبط بها السكان في معاشهم بشكل يومي،  في ظل وجود مماشٍ مظللة تقود إليها، ومع توفر مساطب خارجية ملحقة بهذه المحلات، مزودة بمظلات عازلة لأشعة الشمس الحارة، تجعل المرتادين أكثر إقبالًا عليها، وتجعل الحياة الممارسة في نطاقها أكثر زخمًا، في النهار والليل.

***

في ظهيرة قائظة تفور بالحرارة الجحيمية، تبحث عن مجرد ظل في أي مدينة من مدن الخليج، خارج المكعبات الأسمنتية، والملاذات المكيفة، لا تجد مساحة ظل واحدة بين هذه المكعبات الأسمنتية التي تقف جدرانها بزوايا قائمة تحت الشمس الحارقة، وكأنها في حالة تشنج عضلي.

مدن هي عبارة عن تجويف داخلي، أو جحر أسمنتي، يعيش على جوعه للطاقة واستهلاكها بإسراف، بدون أدنى خيار للترشيد أو الاستدامة.

تتساءل حينها هل هناك فسحة للخيال، في رأس من هندس وخطط لهكذا مدن، فهي مدن تخلو في الحقيقة حتى من أدنى اهتمام، في تصميمها بالعناصر البيئية التي تشكل المكان، فجاءت المدينة، وكأنها عناصر ديكور مؤقتة في موقع لتصوير الأفلام نفذ على عجل.

هي مجرد تجويف أسمنتي، بدلا من أن يشكل موئلا رحبا للحياة كأي مدينة، تجويف يشكل سجنا يحاصر حياة السكان، ضمن مساحات محدودة ضيقة، أما الخارج بكل اتساعه وتعدد العناصر الطبيعية فيه، فهو متروك خلف عتبة هذا السجن الأسمنتي الكبير، للإهمال وكأنه سقط متاع.

التصميم العُمراني لمبانينا في أغلبه، يستجيب للانكفاء داخل المبنى، منغلقون تحت سقفه وبين جدرانه، فليس هناك تكامل في التصميم بين الداخل والخارج، مثل الميزة الموجودة في المباني التقليدية، في الحارات القديمة في قرانا وأريافنا، التي هي تعتبر ميزة غالبة، ومن صميم الهندسة العربية والإسلامية، والتي تستجيب لتحديات البيئة المحيطة، وتوفر إمكانيات هذه البيئة من ظلال ومن تيارات هوائية، لصالح تدعيم وظيفة المبنى، ليشكل مجالًا قابلًا للعيش فيه وفي محيطه، برغم تطرف درجات الحرارة في المكان.

واستجلاب أنماط من العمارة الجاهزة بدون التبصر للتحديات التي تفيض بها البيئة المحيطة، بدون ابتكار الهندسة الإبداعية، النابعة من روح البيئة والمكان، خلق مشكلة عويصة، أوجدت مدنًا مستهلكة للطاقة، وبعيدة بعدا كبيرًا عن القابلية في انتهاج خطط الاستدامة في تنمية هذه المدن وتطورها.

معظم أوقات حياتنا، في مدن مثل مدن منطقة الخليج شديدة الحرارة، يجعل هذه الأوقات مرتبطة بجوف المباني دائما، فهذه المدن عبارة عن كهوف محصنة من الباطن، ضد الحرارة في الخارج، مع تكلفة عالية للطاقة نتحملها، هي الأعلى من كل مدن العالم، نتيجة الطاقة المُستهلكة في تغذية أجهزة التكييف التي تعمل على تبريد هذه الكهوف، ليل نهار.

إن الهندسة المعمارية المستجلبة، التي وصلتنا مع بقية المتاع من السلع والعروض الاستهلاكية الأخرى، جعلتنا رهيني العلب الأسمنتية، التي تشكلت منها مدننا، بحيث فاقمت عزلتنا عن البيئة المحيطة بنا، فمع أقل انخفاض في درجات الحرارة عن المعدل المتطرف، نخرج من كهوفنا الأسمنتية وكأننا ضيوف أغراب، نستكشف باندهاش بيئة غريبة، قبل أن نعود ثانية إلى جحورنا.

وتوظيف الإبداعات الهندسية في العمارة، التي أبلت بلاء حسنا في تحسين الظروف، بالنسبة للمسكن الملائم للسكان، في بيئات مناخية مختلفة في العالم، تفيض بتحدياتها، مثل بيئتنا، يجعل هذا التوظيف السبيل الأمثل للخروج من الأزمة المعمارية التي ترسف فيها مدننا، والتحديات البيئية والمناخية التي تُعاني منها.

وإذا عدنا إلى موضوع الظلال وهو منطلق هذه المقالة، فإنه بإمكاننا، بشيء من الدمج المُبدع ما بين الهندسة المعمارية وهندسة التشجير، أن نخلق جادات معمارية أكثر قابلية لاحتضان النشاط السكاني في نطاقها في كل ساعة من ساعات النهار والليل، وأكثر مواءمة للبيئة، ولعيش السكان في نطاقها البيئي، مما يُشكل نواة لمدن أكثر استدامة، وأقل إدمانا على الطاقة، وأقل قبحا من مدننا في دمامتها الأسمنتية الحالية.

على المهندسين والمخططين المدنيين، أن يفكروا خارج الصندوق مثل ما يقال، وأن يغادروا مكعباتهم الأسمنتية، ويخرجوا منها، إلى نطاق أوسع، من الخيال والإبداع، خيال وإبداع في التصميم، يجعل المبنى والشجرة في عناق دائم، مبنى يحضن الظل ولا يطرده بعيدًا، أو يُلغيه نهائيًا، بوقفته المستقيمة المتشنجة، وكأنه سيف مسلط على رقاب الظلال.