توازنات المرحلة المقبلة.. سيناريوهات

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

تلعبُ أطراف التنمية الثلاثة المتمثلة في أفراد وأسر المجتمع، وشركات القطاع الخاص، والحكومة بكياناتها المختلفة، أدوارًا أصيلة في رسم وصناعة سيناريوهات المستقبل؛ والذي يتجسد من خلال الأدوار والممارسات وأنماط سلوك هذه الأطراف.

فإما أن تكون سيناريوهات الازدهار والنهوض والانطلاق إلى آفاق أبعد للتنمية، وإما سيناريوهات عدم الفعل والتراجع والتقوقع في عباءة الماضي وإلقاء اللوم على الظروف والمتغيرات المختلفة. والحكمة تقول إن مستقبل الأمم بيد أبنائها وما هو إلا ترجمة لسلوكياتها وإيمانها بقدراتها الوطنية لتسوية أشرعتها وشحذ همم وطاقات وعقول أبنائها في الاتجاه المنشود. 

وتواجه المجتمعات ومن بينها المجتمع العماني صعوبات في تحقيق توازنات استراتيجية كبرى في أدوارها تتناسب مع مراحل نموها وتسارع المتغيرات والتي تستوجب إجادة الأطراف المذكورة لأدوار نوعية واضحة ومنسجمة بعيدًا عن الخلط واللبس في تحديد المهم والأهم والشمولية في تناول الأبعاد المختلفة. سأقتصر الحديث هنا عن ثلاثة توازنات رئيسية تمثل مفاصل التنمية.

التوازن الأول والذي يجب أن تلعب فيه شركاتنا في القطاع الخاص الدور الأبرز وهو توازن في دورة الأنشطة التجارية، وتغيير هيكلتها لصالح الإنتاج لا الاستيراد. ماذا ننتج ونستهلك وماذا نصدر ونستورد وماذا نشتري ونبيع ومن أين وإلى أين؟ فالاقتصاد العماني ما زال معتمدًا بشكل ملحوظ في الحصول على العملة الصعبة من تصدير النفط والغاز. وتخرج معظم هذه العملة بشكل سريع لتلبية الطلب المحلي من خلال استيراد السلع والخدمات والعمالة الوافدة. ولذلك فإن تحفيز وتنشيط نهوض شركات القطاع الخاص هو عنوان المرحلة المقبلة، وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ الخطوات العملية باتجاه تحقيق هذا الهدف ما زالت محدودة. كما يجب على شركاتنا استيعاب التغيرات الحتمية في النموذج التنموي وهي مطالبة بترتيب أوراقها بطريقة مختلفة لتحقيق تحولات نوعية في أدوات وأساليب عملها تمكنها وتعزز قدراتها على الصمود أمام تداعيات جائحة كورونا وانكماش النشاط الاقتصادي وارتفاع تكلفة التشغيل. وهنا تنبري أدوار جديدة لبيت التجار والصناعيين "الغرفة"، والتي تتطلب هيكلة جديدة للقيام بأدوار بعيدة عن الصبغة التقليدية، بحيث تكون قادرة على المساهمة في رفع تنافسية القطاعات المختلفة ودراسة العناقيد لكل قطاع وما يرتبط به من صناعات وجاهزية، وكذلك تحديد فجوة المهارات التي تحتاجها شركات القطاع الخاص ونوعية الدعم الذي تحتاجه بعيدًا عن دورها الحالي كمراقب. ولا شك أنه آن الأوان لتراجع الحكومة تدخلاتها في القطاعات الإنتاجية وتركيزها في تجهيز الأطر والتشريعات.

التوازن الثاني، والذي تلعب فيه الحكومة بكياناتها المختلفة الدور الأهم، يتمثل في إدارة الدورة الاقتصادية في سنينها السمان وسنينها العجاف من خلال سياسات عامة كلية متسقة تغطي الأبعاد المختلفة للتنمية، وتشمل السياسات المالية والاستثمارية والنقدية والتجارية والصناعية والعمالية وغير ذلك من سياسات. فهناك ضرورة لتكثيف الاستفادة من السياسات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية في سنوات الرواج والازدهار وارتفاع أسعار النفط والتي تختلف عن تلك السياسات المطلوبة في سنوات الكساد والانحسار وتدني أسعار النَّفط. وكذلك  السياسات الضرورية لمُعالجة تشوهات عناصر وعوامل الإنتاج الأربعة المعروفة والتي لا تستقيم أية معادلة تنموية بدونها. ولا شك أنَّ أبرز خصائص السياسات العامة التي نريدها أن تكون منفتحة ومتكاملة ومبتكرة ومستشرفة للمستقبل لإحداث التغيرات المنشودة فإدارة العملية التنموية بعفوية وتركها شتاتاً بين الجهات المختلفة خاضعة لعمليات شد وجذب غير مدروسة وذات تأثيرات واضحة على المسار التنموي يمثل وصفة للفشل وتبعثر الجهود والتجديف في اتجاهات مختلفة. وعلى الرغم من التقدم الواضح في دور الحكومة لمواجهة التحديات على مختلف الأصعدة، إلا أنَّ مسار المستقبل في رؤية "عُمان 2040" ينادي بنقلة نوعية للدور الحكومي ليكون دورًا ممكِّنًا أكثر منه مُقدمًا للخدمات؛ فشركات القطاع الخاص قد تكون أكثر كفاءة ومرونة في تقديم العديد من الخدمات، كتلك المرتبطة بالتسويق للفرص الاستثمارية وإدارة مراحل رحلة الاستثمار المختلفة. فالحكومة بكياناتها المختلفة تعمل في مسارات رسمية عامة ولا تمتلك هوامش ومساحات واسعة للمتابعة وتقديم الخدمات المختلفة التي يحتاجها المستثمر لاتخاذ قراره الاستثماري وخاصة في ظل المتغيرات المتسارعة والمنافسة المحتدمة في اجتذاب الاستثمارات بين الدول. ومن المعلوم أنَّ هناك معلومات وبيانات وإجراءات وعناية خاصة يحتاجها المستثمر تتوزع بين العديد من الجهات الرسمية وغير الرسمية، تستطيع الشركات الخاصة المتخصصة تقديم هذه الخدمات المتنوعة والأخذ بيد المستثمر ومرافقته في كل محطة ومرحلة من مراحل الاستثمار.

أما التوازن الثالث والأكثر إلحاحاً والذي يلعب فيه أفراد وأسر المجتمع الدور الأهم، فيتمثل في العلاقة بين الحكومة وشركات القطاع الخاص والأفراد والأسر. ومدى تحقيق التوازن بين الأهداف المتقاطعة بين هذه الأطراف. فالحكومة لا زالت تضطلع بمعظم الأدوار في الإنتاج، والتمويل والاستثمار والتشغيل. وإن كان هذا الدور مطلوبًا في المراحل الأولية لمسيرتنا، فإن المراحل الحالية والجاهزية التي وصلت إليها السلطنة تفرض ضرورة تقاسم الأدوار بين جميع الأطراف ذات العلاقة. وهناك أهمية لإيمان أفراد وأسر المجتمع بمقاربات جديدة، كتلك المرتبطة بتحمل الكلف وتقاسم الأعباء؛ فالحكومة لا تنزل عليها مائدة من السماء لتنفقها في أوجه الإنفاق المختلفة، وهناك حاجة لرفع الإنتاجية للموارد البشرية وحسن استغلال البنية الأساسية، كما إن أفراد المجتمع مطالبون بأن يكونوا مبادرين ومنتجين، ويؤمنون بأن ريادة الأعمال وتفضيل المنتج المحلي وثقافة الترشيد والعمل الحر، هي السبيل لخدمة عُمان في نهضتها المتجددة، وأن تعضيد جدار الثقة بين ركاب السفينة أمر لا مناص منه. ويعتمد نجاح العلاقة بين الأطراف الثلاثة على ثلاثة مقومات أساسية، هي الثقة المتبادلة، والشفافية، والاستعداد للمساءلة.

وأيًا ما كان الأمر، يدرك جميع أفراد الأسرة العمانية الكبيرة؛ أفرادًا وأسرًا وحكومة وشركات، مدى الجاهزية التي تنعم بها السلطنة من جانب وحجم التحديات وتعقدها من جانب آخر، فالطريق للعبور بعُمان لمصاف الدول المتقدمة لن يكون مفروشًا بالورود ولن يتحقق بالتمني ويستوجب أدوارا متكاملة ومتسقة وإشراكاً حقيقياً لأطراف التنمية في تحديد أولويات التنمية وعدم تفرد الحكومة في تحديد ما هو الأنسب لشركات القطاع الخاص ولأفراد وأسر المجتمع. ونؤكد أنَّ نجاح السلطنة في عبور المرحلة المقبلة، يعتمد بشكل كبير على إدارة هذه التوازنات الاستراتيجية بمختلف متغيراتها وأبعادها من قبل فريق يحمل فكرا متجددا وفهما شموليا لترابط المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الدولية ويعمل بشغف لبناء المستقبل بحيث تعمل محركات النمو بانسجام وتناسق تام.

وختامًا.. يتطلب الأمر، فهمًا واضحًا لما نواجه، والقبول به، والرؤية الصحيحة للتحول، وخطة عمل واضحة المعالم تعكس وضع عُماننا والديناميكيات العالمية. وقبل كل شيء الاهتمام بالإنسان العماني؛ فهو المجتمع والأسرة، وهو الحكومة، وهو القطاع الخاص، وبسلوكيات الأفراد وإرادتهم نصنع المستقبل. ولقد وضعت "عُمان 2040" الإنسان في جوهر اهتمامها وأفردت له محوراً خاصًا لتعزيز الرفاه الاجتماعي، مؤكدة أن الإنسان هو بوصلة التوازن والهدف والغاية من عملية التنمية ووسيلة لتحقيقها.