ما زلتُ أنثى

 

سعيدة البرعمية

 صباح آخر يكتسي رائحة خبز أم أحمد، تلك المرأة التي مازالت تحتفظ بمعنى أنوثتها ولم تطرأ عليها معالم الحداثة، فهي لم تكن سليطة اللسان قط، تتميز بالهدوء والحياء والرزانة، تهتم بمظهرها رغم كبر سنها، لبقة الحديث ومحاورة على مستوى عالٍ من أساليب الحوار، حنونة تدرك جيدًا أنها أنثى بالفطرة وليس بالمفهوم المُعاصر، الذي أكل عقول النساء وكاد يفقدهن أنوثتهن. كما أنها تدرك أهمية الرجل؛ فلم تكن ندًا له يومًا ما.

سألتها إحدى جاراتها يومًا أثناء زيارتها لها، أما حان الوقت يا أم أحمد أن ترتاحي؟ بلغت من العمر ما يجعلك تعزفين عن العمل وتنظرين لصحتك، زوجك ميسورالحال وأبناؤك جميعهم يعملون، يستطيعون أن يجلبوا لك بدل العاملة عاملتين.

أجابت أم أحمد مبتسمة: كلامك صحيح، ولكنّي يا أم سالم ما زلت أنثى!

اكتفت أم أحمد بتلك العبارة المكونة من كلمتين "ما زلتُ أنثى" وأخذت صحن الخبز، ناولته جارتها قائلة: ذوقي يا أم سالم، أهذا أطيب أم خبز عاملتكم؟ أخذت الأخرى منه خبزة مزينة ببعض النقوش وحبات السمسم، ودخلت مع مذاق الخبز ورائحتها في آهات الشكوى من عاملتها، ووقاحتها ومزاجيتها في التَّعامل معهم، لكنها تستدرك قائلة: لكني لا أستغني عنها، على كلّ مساوئها، زوجات أبنائي وبناتي كما تعلمين البعض يسهرن الليل، وينمن إلى العصر والبعض منهمكات في أعمالهن ودراساتهن.

اكتفت أم سالم بهذا العذر وأستأذنت أم أحمد بقولها: سأذهب كي لا تنفرد العاملة بالبيت من بعدي.

من يفهمني؟

جاءت حفيدة أم أحمد قبّلت رأسها ويديها وجلست إلى جانبها، ثم قالت في خجل وخدّاها محمرين: جدتي أنت حتما تدركين جيدًا ما معنى الوله والشوق وما معنى العشق.

الجدة : نعم يابنتي، ولكن لماذا تسألين؟

  • زميلة لي في المدرسة تخبر البنات أنها تعشق طالبة أخرى من إحدى الصفوف.

وأعرف أخرى من بنات صفي تكاد تموت من الوله على معلمة الأحياء، تقول: إنّ عشقها لها لم يُذاق ولن يُذاق، جدتي إنني في حيرة، أمن الطبيعي هذه المشاعر التي أسمع عنها كلّ يوم؟

  • لا يا بنتي، هذا أمر منهي عنه في ديننا، هؤلاء البنات نموذج ينبغي أن تتم مُعالجته نفسيًا.
  • جدتي وماذا إن قلت لك، أنا الطالبة التي تعشق معلمة الأحياء، كيف ستعالجيني؟

لم تستوعب أم أحمد ما سمعته من حفيدتها، كاد يُغمى عليها من هول الموقف، انصب عليها شلال الصدمة والذهول، انعقد لسانها في فمها، شعرت وكأنَّ هواء ساخنًا يتصاعد من أذنيها، أخذت تقلب نظرها فيما حولها دون شعور، مما جعل سرايا الندم تغزو ذهن الحفيدة تلوم نفسها على بوحها دون تمهيد كافٍ، بينما ظلّت جدتها تحاول استجماع شتاتها المنهار أمام سيل الحقيقة.

 دخل أحمد مندهشًا من الموقف الذي أمامه، مابكما؟ أميّ وبنتي على غير عادتهما. اكتفي بهذه العبارة ودخل إلى غرفته.

وضعت الجدة يدها على جبين حفيدتها، وقالت: لاعليك يابنتي الموضوع بسيط، هذا ليس عشقًا هذه مشاعر عابرة وستتأكدين بنفسك، على أن تفعلي ما أقوله لك وتلتزمين به. أخبريني هل درجاتك عالية في مادة الأحياء؟ تجيب الحفيدة لا، لأني لا أحب المادة، فهي مملّة جدًا وأنا لا أركز في الشرح بقدر ما تجذبني ملامح المعلمة وأسلوبها وجمالها.

قالت الجدة يجب أن تعكسين الصورة وتهتمي بالمادة ليس المعلمة؛ لأنك أتيت للمدرسة من أجل المادة لا المعلمة، تتذكرين لمّا كنتْ تقولين لي أنك ستصبحين دكتورة، لن تُحققي حلمك دون الاهتمام بمادة الأحياء وكلّ المواد.

أخذت الحفيدة بنصيحة جدتها، وثابرت واجتهدت وحصلت على درجة ممتازة في المادة مدركة أنها طالبة أتت للدراسة، وأمامها هدف يجب أنْ تصل إليه.

تعليق عبر الفيس بوك