الاستثمارات الأجنبية.. ما لها وما عليها

علي الرئيسي

باحث في الاقتصاد وقضايا التنمية

كثيرٌ من الموضوعات الاقتصادية تتناول بنوع من التبسيط والسذاجة أحيانًا، وهي في الحقيقة في غاية التعقيد. وربما ذلك يأتي في مجمله من حسن النية، ولكنه يعبرعن عدم معرفة بالتعقيدات الاقتصادية المختلفة. فيعتقد الكثيرون أن الاستثمار الأجنبي هوالحل السحري لكثير من مشكلات التنمية.

ولا يُمكن بأي حال استنساخ تجارب الآخرين؛ حيث إن الظروف الذاتية والموضوعية تختلف من بلد إلى آخر.  صحيح أن الاستثمار الأجنبي يُساعد في سد ما يُسمي بفجوة التمويل، حيث تعاني معظم الدول بين متطلبات الاستثمار ونسب الادخار العام المتدنية. غير أنَّ مسألة جلب الاستثمار الأجنبي هي مسألة معقدة (مثلها مثل معظم الظواهر الاقتصادية التي يتم التعامل معها من قبل غير المتخصصين بسذاجة مفرطة أحيانا) ، ومعظم الدول النامية تتنافس لتكون الوجهة المفضلة. غير أن تدفقات الاستثمار الأجنبي في معظم الوقت لا تعتمد علي السياسات المحلية لهذه البلدان فحسب، وإنما تعتمد على عوامل السوق العالمية، وديناميكية حركة رؤوس الأموال.

وبناء على إحصائيات معهد التمويل الدولي، فإنَّ التدفقات المالية إلى الأسواق الناشئة قد تراجعت بنسبة 13% في عام  2020 إلى 313 مليار دولار أمريكي. غير أن هذه التدفقات ظلت قوية في بداية 2021؛ حيث بلغت 45.5 مليار دولار في إبريل و13.8 مليار دولار في مايو، وكان أغلبها لشراء سندات دين للدول النامية. وتراجع إجمالي الدين العالمي بحوالي 1.7 تريليون دولار ليصل إلى 289 تريليون دولار في الربع الأول من عام 2020، إلا أن ديون الأسواق الناشئة ارتفعت بمبلغ 600 مليار دولار؛ حيث بلغت 86 تريليون دولار.

الإحصائيات المذكورة تظهر أن الأوقات السعيدة قد عادت للأسواق الناشئة، ليس كذلك بل تقول جياتا جوش- الاقتصادية الهندية المعروفة- إنَّ السياسة النقدية التوسعية للدول الغنية وسياسات التحفيز المالي، كانت أحد أسباب تدفق رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة. لكن بينما هذا التوسع في الإنفاق الحكومي- وبالذات في الولايات المتحدة- قد يسارع إلى تعافي الاقتصاد الأمريكي، فإنَّ احتمال أن تكون عودة هذه الأموال من الأسواق الناشئة إلى الاقتصادات الغنية يظل قائمًا؛ مما سيؤدي إلى تدفقات كبيرة من الأسواق الناشئة، وخاصة تلك التي تعاني من مخاطر عالية إلى الدول الغنية.

طبعًا لا يمكن اعتبار كل الأسواق الناشئة على أنها متجانسة؛ فالصين مثلاً- نظراً لحجم اقتصادها وباعتبار سيطرتها على الوباء وتعافى اقتصادها- فإنها حالة مُتميزة بين الدول الناشئة. وهناك أسواق- مثل الفلبين وبولندا- استغلت الحيِّز المالي، وقوة نيران مدفوعاتهما، وذلك بتقديم الكثير من الدعم لاقتصاداتهما. آخرون كالأرجنتين ومصر وتركيا يواجهون وضعًا صعبًا للقضاء على الاختلالات الاقتصادية الكلية وتسديد الديون. وهناك دول مثل الهند والمكسيك لا تواجه وضعًا خارجيًا صعبًا حتى الآن، لكن العجز في المالية العامة، وتباطؤ النمو قد يؤخران قدرتهما على التعافي الاقتصادي السريع.

إن الدول الناشئة ترى أن دمج أسواق المال سبيلًا للحصول علي تمويل أرخص نسبيًا لتنمية الاستثمارات وتمويل الإنفاق الحكومي، غير أن ذلك يحتوى في طياته على مجموعة من التناقضات والاهتمامات؛ فتحرير الحساب الرأسمالي (حرية تدفق رؤوس الأموال) يؤدي بالضرورة الى تدفقات للخارج والداخل، وبالتالي لا تستفيد البُلدان دائمًا من التدفقات نحو الخارج؛ لذلك يتحفظ عدد من الاقتصاديين على تحرير الحساب الرأسمالي. فقد أدى تحرير حساب رأس المال الى ازمة مزدوجة (أزمة مصرفية ونقدية) في المكسيك في بداية التسعينات من القرن الماضي، بما سمي وقتها بأزمة "التكيلا". وأدى تحرير الحساب الجاري وتدفق الأموال قصيرة الاجل الى الازمة المالية الآسيوية في عام 1997؛ فتدفقات رأس المال في ماليزيا مثلًا سالبة خلال العقد الماضي، لذلك فإن معظم المدخرات المحلية اتجهت نحو خارج البلد. الهند، من ناحية أخرى، رفعت من احتياطياتها الأجنبية بشكل كبير خلال فترة كوفيد-19 حتى بلغت 600 مليار دولار معتقدة خطأً بأن ذلك دليلاً على قوة اقتصادها.

الاحتفاظ بالاحتياطيات الأجنبية مكلفٌ جدًا؛ لأن الدول عادة تحتفظ بهذه الاحتياطيات في استثمارات مُحافِظة؛ مثل أذونات الخزينة الأمريكية ذات الفوائد المنخفضة. هذا إضافة الى تحول الثروة من الدول الناشئة إلى الدول الغنية. ويزعم الاقتصادي التركي يلماز أكوز أن هذا التحويل للثروة من الدول الناشئة إلى الدول الغنية

 (في الفترة من 2000 إلى 2016) بلغ 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي للدول الناشئة في مجموعة العشرين كل عام.

وفي عُمان لم يتجاوز الاستثمار الأجنبي أكثر من 4 مليارات دولار في 2019، ومعظمه يُعزى إلى دين حكومي واستثمارات في النفط والغاز، وبالتالي على السياسات الحالية أن تركز على استقطاب استثمارات طويلة الأجل، وخاصة في الصناعة والتكنولوجيا؛ أي في القطاعات غير النفطية والقابلة للتصدير، وذلك بالضرورة يتطلب وجود قوى عاملة وطنية مُدربة، تتمتع بإنتاجية عالية وقادرة على المنافسة. ويتطلب ذلك أيضًا تحسين بيئة الأعمال، واستقرار واستمرارية الأنظمة والقوانين الخاصة بممارسة الأعمال وتنظيم سوق العمل، إضافة إلى تحسين الشفافية والحوكمة، وخفض ما يسمى بـ"المعوقات غير الجمركية".