قراءة في كتاب "التأثير السيبراني: كيف يُغير الإنترنت سلوك البشر؟" (2- 5)

 

عبيدلي العبيدلي

وفي سياق حديثها عن مساوئ الإنترنت، وتحديدًا عند تناولها الشبكة العنكبوتية الغامضة (Deep Web)، تؤكد أيكن أنه "ليس الهدف من المعلومات التي في هذا الكتاب، والتي ربما تُشكل صدمة لبعض الناس، وخاصة الفصل المتعلق بالشبكة العنكبوتية الغامضة، مجرد التسلية أو الإثارة ببساطة. لا بد أن تكون الزوايا المظلمة والغامضة للإنترنت واضحة للعامة، حيث ربما تتضامن جماعات من المسيئين أو حتى المجرمين لتحقيق مآربهم غير الأخلاقية، وينتعش الاستغلال والسوق السوداء. وهذه من الأمور التي ينبغي لكل شخص أن يأخذها بعين الاعتبار حين يكون على الهواء. لماذا؟ لأن المزيد من الشباب ينجذبون إليها، يدفعهم إلى ذلك مزيجٌ من حب المغامرة والفضول وخاصة بالنسبة للمراهقين. هؤلاء ينشأ لديهم بطريقة ما انطباعٌ زائف بأن هذه بيئة آمنة تمامًا على الشبكة العميقة، بل هي مصدر للمتعة والتسلية، في حين أنها ليست كذلك".

وكباحثة أكاديمية تحافظ أيكن على توازنها الموضوعي، حين تتطرق إلى أي من القضايا التي تمس انعكاسات انتشار استخدام الإنترنت في المجتمعات البشرية. فنجدها في أكثر من موقع في الكتاب، تستطرد بعلمية متقنة في سرد ما يوفره الإنترنت، بشكل متزايد، من مجموعة من الفوائد، لكنها لا تنفي أن ذلك لا يأتي دون أن يكون مصحوبًا بمجموعة أخرى من السلبيات، التي لا تصل إلى مستوى المخاطر التي تهدد حياة البشر، لكنها أيضًا تنذر بتغيير أنماط سلوكهم الاجتماعي في الحياة اليومية العامة التقليدية البعيدة عن عالم الإنترنت.

لذلك نجدها تقف بشكل مطول، لكنه غير مؤسف ولا ممل، عند تلك الظواهر التي باتت شبه طبيعية، مثل المواعدة عبر الإنترنت، والتطرف الإدماني والقاتل للألعاب، بل وحتى عندما يصل الأمر إلى جرائم القتل التي تحفزها تطلعات الشهرة على الإنترنت.

وتركز أيكن على استعراض بعض التحليلات التي تكشف كيفية استجابة الأطفال للعالم الرقمي، وهي معلومات مفيدة بشكل خاص للآباء الذين يأملون في حماية أطفالهم من تطوير عادات سيئة يمكن أن ينتهي بهم الأمر بسببها في مواقف خطرة.

والجميل في الكتاب هو قدرة المؤلفة على أن تأتي كل حكاية يتم تحليلها، مقرونة بذلك البحث العلمي المصاحب لها الذي أجري بعناية وتفصيل. هذا يعين المؤلفة في إيصال دعوتها التحذيرية من أخطار الإنترنت، دون الحاجة إلى تضخيم الخطر أو إخراجه من حيزه الطبيعي المناسب.

وقد يجد بعض القراء في ملاحظات المؤلفة التفصيلية في نهاية بعض الصفحات شيئا من التطرف؛ مثل التنبؤات بمعركة شاملة بين البشر والآلات، على سبيل المثال. لكنها تصبح مقبولة عندما تقرأ في سياق مشروع المؤلفة الهادف إلى إعادة تصميم مجتمع للإنترنت بما يقلص، كي لا نقول يضع حدا للسلبيات، بعد أن يستبدلها بالإيجابيات.  هذا النقاش يضفي أبعادا إنسانية لا متناهية لما تدعو له الكاتبة. ومن هذا تنبع ضرورة مناقشة المؤلفة فيما ذهبت إليه من سلبيات الإنترنت، كي لا ينتهي أمر القارئ إلى استنتاج خاطئ مفاده دعوة المؤلفة المطلقة إلى مقاطعة الإنترنت، أو كل ما له علاقة بالعالم السيبراني.

هذا الاستحضار المتزن لدى الكاتبة الذي يدعو كما هو وارد بوضوح في كتاب "التأثير السيبراني"، يجعل القارئ يتفق مع المؤلفة أننا أمام أبواب "ثورة صناعية ثالثة، هي الثورة الرقمية التي تقتحم فضاءً جديدًا يحتاج فيه الأطفال والشباب خاصة إلى أقصى الرعاية والاهتمام لحماية براءتهم.

 وعند تناولها أخطار الإنترنت على الأطفال، تُشير مؤلفة "التأثير السيبراني"، بوضوح غير قابل للجدال، إلى ما يواجهه الأطفال والشباب من مجموعة من الظواهر المحفوفة بالأخطار، والتي هي الأكثر كشفا لسلبيات الإنترنت. وتحذر الكاتبة من ذلك الشعور الطبيعي الذي يجتاح أولئك الأطفال والشباب. فهي ترى أنه من الطبيعي أن يشعر مثل هؤلاء بالفضول وتزداد لديهم الرغبة في المزيد من الاستكشاف. وهم هنا في عمر يؤهلهم للتعامل بكفاءة مع التكنولوجيا، بفضل ما يملكونه من مهارات تقنية تجعل من محاولات الاستكشاف متعة وتحد في آن.

ما هو أخطر كونهم، أي الأطفال والشباب، باتوا أكثر براعة مما يتصور أولياء أمورهم. لكنهم، كما ترى أيكن ليسوا ناضجين بما يكفي لإدراك أخطار وجودهم في الفضاء السيبراني. والأكثر خطورة، أنهم لا يفهمون، أو لا يدركون، مهالك ما يتربص بهم نتائج التعامل مع تلك البيئة.

ويسهب كتاب "التأثير السيبراني" في توصيف كيف تتغير سلوكيات الناس ومشاعرهم وقيمهم حين يبحرون على مواقع الشبكة العنكبوتية العالمية، ويتوقف عند محطات عدة تسلط أضواء كاشفة على كيف يستغل المجرمون المتربصون بهم، والمتخفين وراء أقنعة يصعب كشفها، تلك التغيرات. ولمن لديه خبرة ولو بسيطة في كيفية الإبحار لا بد وأن يكون ملما ببعض التقنيات والإجراءات ذات العلاقة بانتحال الهوية، والتلصص، والتحرش، والقرصنة، بل وحتى التنمر. فنجده يحذر أولئك الذين يركزون مهاراتهم في كيفية جعل كلمات السر الخاصة به معقدة كي تتوفر فيها أفضل، ما يعتقده ذلك المستخدم، مقاييس الأمان والحماية. لكن يغيب عن ذهن ذلك المستخدم، كما تقول أيكن، أن تلك الإجراءات الاحترازية تفتح شهية أولئك المتربصين به، كي تسهم في ارتفاع احتمالات تعرضه للخطر أو أن يصبح ضحية لابتزاز بعض أولئك المجرمين المحترفين.

بعدها تشرع المؤلفة بالاستعانة ببعض المقارنات التي تحاول المؤلفة من خلالها تقريب الصورة التي تحاول رسمها من عين القارئ. تضرب المؤلفة بأنك، لو كنت على سبيل المثال جالسا في غرفة نومك، وأمامك أحد أجهزة اتصالك بالإنترنت. بشكل طبيعي، وبدون قرار مسبق رحت تخبر العالم كله، وليس دائرة أصدقائك ومعارفك فحسب (على فيس بوك، توتير، سناب شات، أو ما شئت من البرامج والتطبيقات)، بكل شيء فعلته فى ذلك اليوم. مقابل هذه الصورة، تنقلك المؤلفة إلى رحلتك اليومية في الحافلة التي تقلك إلى مقر عملك. هل ستخبر أي غريب تقابله وجهًا لوجه، بكل تلك الأشياء التي قمت ببثها على تلك المنصات؟ أنت تنسى نفسك في لحظات وربما تطلع ملايين الغرباء على خصوصياتك بسبب تأثيرات عدم الإحساس بالتحفظ على الهواء.