المفهوم الحكومي الضيق للاقتصاد الوطني

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

برهنت الأزمة المالية التي تعيشها سلطنتنا الحبيبة بفعل "تحالف الثالوث": عجز الموازنة والدين العام- انهيار أسعار النفط- جائحة كورونا، على أننا في أمسِّ الحاجة إلى عقول خلّاقة في إدارة الأزمات وإدارة الاقتصاد الوطني بدءًا من وحدات الجهاز الإداري للدولة، ووصولًا إلى مفردات الاقتصاد الأخرى الداخلية منها والخارجية.

لجأت حكومتنا الرشيدة "مُكرهة" إلى خطة للتوازن المالي (2021/ 2024) لتسريع جباية أكبر قدر ممكن من السيولة التي تُمكِّن السلطنة من الالتزام بالرواتب، ومواجهة العجز وسداد الدين العام وتعويض فجوة انهيار أسعار النفط، ومواجهة آثار جائحة كورونا. خطة التوازن المالي بطبيعة الحال لم تصاحبها خطة توازن اقتصادي تفتح آفاق تعدد مصادر الدخل وتنوع الاقتصاد، ولا خطة توازن اجتماعي تراعي معيشة المواطن وتحافظ على السكينة العامة للدولة، لهذا سبب تطبيق خطة التوازن المالي بمفردها إرباكًا كبيرًا في مفردات الاقتصاد وفي تفاصيل الحياة المعيشية للمواطن وهذا ما كان متوقعًا.

ما يهمني هنا هو الحديث عن غياب الحس العام لدى المسؤولين بأهمية تعزيز الاقتصاد الوطني، والنهوض به بمعزل عن الجباية الفردية لكل مؤسسة على حدة، بفعل الرسوم والضرائب والغرامات المخولة بجبايتها بحكم القانون والصلاحيات، دون شعورها بمدى إضرارها بمداخيل أكبر سيجنيها الاقتصاد الوطني عبر وحدات أخرى.

لا شك عندي بأهمية وجود "مايسترو" إداري حكومي بمجلس الوزراء مثلًا ينظم علاقة الوحدات الحكومية ببعضها تشريعيًا وإداريًا؛ أولًا من أجل تبسيط الإجراءات وتحسين جودة الخدمات ورفع وتيرتها، وتنظيم التحصيل المالي لكل وحدة من الرسوم والضرائب وبما يحقق التوازن الاقتصادي، ويحقق التناغم في أداء الجهاز الإداري للدولة. ما نلاحظه اليوم قيام وزارة ما بإصدار أو تعديل أو تغيير قوانين أو مواد قانونية تراها صالحة لها وتحقق مهامها وأهدافها التنموية، لكنها تُعيق- بوعي أو بلا وعي- مهام وأدوار وحدات حكومية أخرى، وتتعارض مع رؤاها للتنمية والتطوير، ومن هذا الإرباك الكبير يمتد الشلل التدريجي والعوار للاقتصاد الوطني وبالتداعي ينال المواطن نصيب منه في تفاصيل معيشته ومكتسباته الوظيفية أو المالية.

غياب حس وشعار المصلحة العُليا للوطن في الممارسة والتطبيق وعمل وتشريعات الوحدات الحكومية، وانفراد كل مؤسسة بصلاحياتها دون مراعاة أو تنسيق حقيقي تحت ذلك الشعار جعل التخبط والضدية حالات مرئية شاخصة للعيان. فالملاحظ اليوم أن كل وحدة حكومية يمكنها أن تكون الخندق الأول للاقتصاد الوطني، ويمكن لهذا الخندق أن يجذب أو يطرد مفردات مهمة للبلد فيما لو أطرت الجهود والمساعي بالمصلحة العليا للوطن، فليس من المنطق أو المعقول أن تتشبث وزارة ما بقانون خاص بها لمجرد أنه من صلاحياتها مع علمها التام بأضراره على قطاعات أخرى وآثاره السلبية على الأنشطة التجارية وتشجيع الاستثمار.

لهذا نجد المليارات تهرب من السوق العُماني عبر مستثمرين خارجيين أو إحجام مستثمرين من الداخل عن التطوير أو التوسع عند مواجهتهم الخندق الأول في الإجراءات؛ سواء كان هذا الخندق أو المحطة وزارة العمل أو وزارة التراث والسياحة أو وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار أو غيرها من الوحدات التي تدخل تحت مظلة منظومة الاقتصاد وإجراءات الاستثمار. وكان من الأجدر بوحدات الجهاز الإداري للدولة ألا يكون أي منها عائق أمام مستثمر داخلي أو خارجي، وأن تؤمن بأن جبايتها لخزينة الدولة بضعة ملايين من الريالات في السنة لا يعني النجاح لها في ممارسة حقها وصلاحياتها القانونية والإدارية، بينما يمكنها ببعض التبسيط والتسهيل تمرير المليارات لخزينة الدولة عبر منافع كثيرة تجنيها الدولة من استدراج المال إلى الداخل، وإغراء المستثمرين في ظل التنافس العالمي المحموم على تقديم الإغراءات الضخمة؛ لاستقطاب رؤوس الأموال من الخارج وتحقيق النمو والاستقرار والتشجيع لها.

الاستثمارات العالمية اليوم لم تعد محفوفة بعناصر الجذب فقط؛ بل موشحة بكل عناصر الإغراء والاستقطاب الذكي لجملة المنافع المتوخاة منها على الاقتصاد الوطني وحياة الرفاة للمواطن. المستثمر لن يتوقف عند الإنفاق على مشروعه وضخ رأس المال في جملة المنافع الظاهرة لنا؛ بل سيتعدى ذلك إلى تنشيط الرسوم والضرائب، وتنشيط سوق العقار وتنشيط الخدمات من ماء وكهرباء واتصال، وتنشيط سوق المواد الغذائية وتنشيط قطاع المواصلات، وقطاع السياحة الداخلية وسوق السفر وتوفير تشغيل مباشر وغير مباشر للمواطنين، وفي المقابل قد نفقد كل هذه الدورة من المنافع بقرار مستعجل وغير مدروس من وحدة حكومية متشبثة بحذافير القانون وقشور الإدارة، فتتسبب في نفور المستثمر ورحيله، والشواهد لهذا المثال لاتُحصى للأسف الشديد.

لتشجيع الاستثمار واستقطاب رؤوس الأموال يجب علينا التيقن بأن الحل يكمن في مرونة التشريعات، وتبسيط الإجراءات كفيل بذلك، فالمال بالنسبة للدول لا يأتي بالضرورة دائمًا عبر استثمار النقود؛ بل عبر تبسيط ومراجعة الإجراءات والقوانين كذلك، كما إن زيادة حجم الوعاء الضريبي لا يجني المال المعول جبايته، بل قد يقلل كثيرًا من مفردات الاستثمار والأنشطة التجارية بينما توسعة الوعاء الضريبي وتخفيض الرسوم هو من يتكفل بتنمية الاستثمار وتعزيز دخل للدولة بشكل مريح.

قبل اللقاء: "إن الأشياء التي تخيفنا أكثر من تلك التي تسحقنا، فنحن غالبًا ما نُعاني في خيالنا أكثر مما نُعاني في الواقع".. لوسيوس سينيكا.

وبالشكر تدوم النعم...