معركة القدس

 

محمد بن سالم البطاشي

خلال فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب توهم البعض بأنَّ عهدا جديدا قد بزغ على منطقة الشرق الأوسط، تكون فيه إسرائيل دولة فاعلة في الشرق الأوسط، إن لم تكن قائدة له، وأن زمن الصراع العربي الإسرائيلي قد ولى، وأنَّ المقادير قد أرخت أعنتها لهم والفلسطينيون قد استكانوا للأمر الواقع الذي تمَّ فرضه عليهم بالحديد والنَّار وأنَّ إسرائيل قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من امتلاك زمام القدس والمسجد الأقصى، ولم يقتصر هذا الهذيان على بعض العرب بل سرى إلى تصورات وعقول كثير من الساسة الغربيين عامة، وأمريكا وإسرائيل خاصة، حتى لقد احتفل بذلك لفيف من الساسة في ذكرى النَّكبة أو ما يُسمى بعيد الاستقلال في مايو 2020، بعد أن أعلن ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل عام 2017، وهم يعتقدون أنَّ القدس بقسميها الشرقي والغربي قد أصبحت عاصمة أبدية لإسرائيل، وأنَّ هذا الأمر قد أصبح حقيقة لا سبيل إلى نكرانها.

في أواخر أيام شهر رمضان الفضيل ومن فرط الثِّقة التي اعترت حكومة اليمين المُتطرف وتعزيزاً لمكانة نتنياهو الذي أوشكت سفينته على الغرق في بحر الخلافات بين ساسة إسرائيل، يوعز نتنياهو لعُتاة الاستيطان والإجرام والتطرف والعنصرية باقتحام المسجد الأقصى وهو يغص بالمؤمنين العاكفين والركع السجود، واقتحام حي الشيخ جراح وإخراج أهله منه بغيًا وعدوانًا، وفي ظنه أنَّ الأوضاع السياسية والأمنية قد نضجت، وأنَّ القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها قد أصبحت في حكم المنسية، وأنَّ المسلمين والعرب قد تخلوا عن قضيتهم، ولم يدر بخلد نتنياهو ورفاقه بأنَّ النار تضطرم في الصدور جراء مُمارسات الحكومة والمستوطنين المستقوين بأحزاب عنصرية تُشارك في الحكومة، وتوفر لهم كافة سبل الحماية اللازمة، فيهب المقدسيون والمصلون في و جه هذا العدوان الهمجي، فترد القوات الحامية للمستوطنين، وتحدث إصابات في صفوف المُدافعين، ويتوافد الفلسطينيون من كل حدب وصوب نصرة للقدس وأهلها، وتخرج المظاهرات في كل مدن فلسطين وقراها بهبة عفوية دفاعاً عن المقدسات الإسلامية والمسيحية، ويشتد الحصار على المصلين والمعتكفين والمُرابطين في المسجد الأقصى وتصدر نداءات الاستغاثة والنصرة من مكبرات الصوت في المسجد الذي بارك الله حوله، وتستجيب المُقاومة لنداء الواجب ببيان مُزلزل أمهلت فيه عصابات الاستيطان وقوات الأمن ساعتين لإخلاء المسجد وحي الشيخ جراح، وإلا فإنَّ المقاومة سترد بالنار نصرة للقدس وأهلها، ولكن المستوطنين لا زالوا في طغيانهم يعمهون، فبانقضاء المُهلة تتساقط الصواريخ على رؤوس المستوطنين وقواتهم في القدس، حيث أخذتهم المُفاجأة كل مأخذ، فلم يدر بخلدهم أنَّ أسلحة المقاومة قادرة على الوصول إليهم، بل حسبوا أن بعد المسافة وتحصيناتهم وقبتهم مانعة لهم. وتستمر المقاومة في دكها لأوكار العدو في تل أبيب وبئر السبع والمغتصبات في غلاف غزة وكل شبر من فلسطين المحتلة، حيث قصفت المصانع ومنصات إنتاج الغاز وخزانات الوقود وأنابيب النقل، ويضطر نحو أربعة ملايين مستوطن للنزول للملاجئ خوفاً ورعباً من الموت الذي أصبح محيطاً بهم في كل شبر من فلسطين، يضاف إلى ذلك وقوع اشتباكات طاحنة بين المستوطنين وقوات الأمن والسكان العرب في كل أنحاء فلسطين، وتعطلت الدراسة وأقفلت المُؤسسات الحكومية والخاصة والمطارات والموانئ أبوابها، واشتد الخطب على الاحتلال مع تواصل القصف واندلاع المظاهرات والاشتباكات في كل شبر من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبلغت قلوبهم الحناجر مع تعقد الوضع أمنياً وعسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ولا يجد العدو ما يقصفه في غزة سوى الأهداف المدنية من مدارس ومستشفيات وأبراج سكنية يقطنها مدنيون مما جلب عليه نقمة وكالات الأنباء ـ التي قصفت مكاتبهاـ والنقمة الشعبية على همجية الاحتلال في أنحاء العالم، لتخرج الشعوب في مُظاهرات حاشدة منددة بهذه التصرفات البربرية ومناصرة لشعب يتوق إلى الحرية، وبعد أحد عشر يومًا من القتال العنيف يجد نتنياهو نفسه مضطرًا للقبول باتفاق مخز لوقف إطلاق النار وإنقاذ إسرائيل من كارثة مُحققة.

والآن وبعد انقشاع دخان الحرب يمكن للمتابع ملاحظة نتائج عدة لعل أبرزها:

أولاً: بروز معادلة الرعب بين الاحتلال والمقاومة وأصبحت واقعًا يقض مضاجعه.

ثانيا: ربط تصرفات قوات الاحتلال والمستوطنين في القدس بالتهدئة، على قاعدة (إن عدتم عدنا).

ثالثا: فشل المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تغييب القضية الفلسطينية عن الوعي العالمي، وباتت اليوم تتصدر أجندات ساسة العالم وتسكن في وعي شعوبه.

رابعًا: الفشل الذريع لسياسة الدمج القسري التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والتي بموجبها يتم سلخ سكان المناطق المحتلة عام 1948 عن وطنهم وانتمائهم الفلسطيني ليصبحوا مواطنين إسرائيليين، وبذلك انكشفت هشاشة المجتمع الإسرائيلي.

خامسا: سقوط مقولة قادة إسرائيل التي طالما تبجحوا بها والمتمثلة في السلام مُقابل السلام، وليس السلام مقابل الأرض، وأنهم لن ينسحبوا من شبر واحد من الأراضي التي اغتصبوها.

سادسا: وكانت المفاجأة الكبرى لهذه المعركة هي التطور الهائل للقدرات العسكرية للمقاومة التي أذهلت العدو وأصابته بصدمة كبرى.

سابعا: فشل رهانات إسرائيل في هذه الحرب والتي أعلنها قادته العسكريون والسياسيون صراحة والمتمثلة في: اغتيال قادة الصف الأول للمقاومة من قادة عسكريين وسياسيين. وتدمير شبكة الأنفاق التي تستخدمها المقاومة في عملياتها العسكرية والقيادة والسيطرة والتنقل وتخزين الأسلحة وذلك باستخدام القنابل الارتجاجية. وضعضعة الجبهة الداخلية لقطاع غزة والتي تمثل الحاضنة الطبيعية للمقاومة من خلال عدة أساليب خبيثة منها: تدمير البنية التحتية بشكل ممنهج وكامل، تدمير الأبراج والأحياء السكنية، وممارسة الحرب النفسية ضد سكان القطاع والتجويع.

تاسعًا: السقوط المدوي لصفقة القرن التي هدفت إلى دفن القضية إلى الأبد، وعودة مفهوم مقايضة الأرض بالسلام يطرق أبوابهم بقسوة، بعدما اعترف عقلاؤهم باستحالة استمرار الوضع الراهن الذي أصبح يمثل كارثة على بقاء الكيان الصهيوني.

عاشرا: القناعة المتزايدة لدى صناع القرار في عواصم الغرب وعلى رأسهم أمريكا بأنَّ أصل العلة هو تصرفات إسرائيل العدوانية.

أحد عشر: عودة القضية الفلسطينية ومظلومية أهلها إلى واجهة الاهتمام العالمي رسميًا وشعبيًا.

ثاني عشر: أظهرت حرب القدس تمكن القضية الفلسطينية من قلوب ومشاعر ووجدان واهتمام شعوب العالم الإسلامي قاطبة، وتمثل ذلك في جزء منه في المظاهرات الحاشدة في مُعظم العالم الإسلامي والمظاهرات الكبيرة في أنحاء العالم والتفاف أحرار العالم ومثقفيه وجيله الجديد حول حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

ثالث عشر: أظهرت هذه الحرب الحاجة الماسة لتسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية حتى يتذوق الشرق الأوسط طعم الاستقرار.

رابع عشر: فقدان الثقة بين الجمهور الإسرائيلي في مؤسساته ووعودها الخادعة بتوفير الأمن والأمان.

خامس عشر: فشل الترتيبات السياسية السابقة القائمة على التفاوض السياسي بدون أوراق حقيقية يمتلكها المفاوض الفلسطيني، وتوقف التهافت على التطبيع.