رقصة إبريق الشاي

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

وقف شابٌ صنديد في مُقتبل العمر، رفع صوت الموسيقى، أمسك إبريقًا للشاي أبيض اللون، وشرع في وصلته المعتادة رقصة "إبريق الشاي".

اشتهرت هذه الرقصة وانتشرت انتشارًا واسعًا في أوساط الشباب، والراقص المغمور أضحى ناراً على علم في الفضاء الرقمي. ما أن تتصاعد الإشعارات مُعلنة بدأ البث المُباشر بعنوان "يا ناس يا عسل إبريق الشاي وصل" حتى تتهافت الجماهير المُترقبة تحجز مقاعدها للعرض الراقص. أدمن الجميع الشاي -بقدرة قادر-، وكأنه مُعد بطريقة خاصة مُميزة وأسلوب تقطير مُبتكر، "شيرني" :-(أي شاركني) أحدهم رابط البث "إبريق الشاي" الخرافي. وإذا بشاب عشريني يرتدي ملابس عصرية، ويبث من خيمةٍ بدوية وتصطف أمامه دلال القهوة والشاي، وجمر يتقد، ومن الواضح أنَّه يُعاني من إعاقة بيده اليمنى. مرت أول عشر دقائق من البث المباشر في الحديث عن المُغالاة والاهتمام بآراء الغير، ووصفهم بالمتخلفين الذين لا يفقهون المعنى الجوهري للتمتع بالحياة. انهالت طلبات المعجبين برقصة "إبريق الشاي"، لَبَّى المشهور المغمور طلب المعجبين المتهافتين، انقطع البث بعد شد وجذب بين راقص "إبريق الشاي" وأحد المتابعين، وارتفاع صوت الشاب الراقص بعصبية مفرطة وقال: "أنا حُر أرقص إبريق شاي، أهز وعلى رأسي صفرية أُم الهناء مالك صالح، أعيش حياتي بكيفي مو بكيفك، ولك بلوك هدية مني".

عندما شاهدت منذ يومين مقطع "المُناضل السكير" تذكرت الشاب الراقص ورقصته "إبريق الشاي"، وهذه المرة كان المتمايل الراقص رجلا كبيرا يبلغ من العمر عتيا، يلقب نفسه "بالمناضل المُتحرر"، يُجاهد ويُثابر-حسب قوله-في سبيل الإصلاح والتغيير الشامل والتحرر بهدف التطور والتنمية. كان يتمايل بنشوة سُكرٍ احترافية مُتقنة-دون إبريق-يُبهر من يراه، ويهذي بكلامٍ مُبهم غير مترابط: -"شايفكم وعارفكم واحد، واحد، وأدري تراقبوني، وما راح تقدروا عليا"، رجلٌ مسكون اجترع كاسات الوهم، يشعر بأنه مُطارد ومُلاحق؛ لأنَّ مطالبه تفوق سقف الجميع.

هؤلاء هم مصارعو الأوهام، يقارعون طواحين الهواء تمامًا مثل "دون كيشوت"، فهل هي متلازمة "دون كيشوتية"، يصارع الإنسان ذاته، فيختلق أوهامًا ويقاتل جبابرة وعمالقة، ويفتعل حربًا وهمية يحتاج أن تكون الغلبة له، ويصنع عدواً لا يُرى بالعين المجردة ويسعى للظفر به.

لا أعلم إن كانت متلازمة "دون كيشوت" موجودة في واقعناً المُعاصر أو في كتب الطب، ولكن هناك الكثير ممن يحترفون رقصة "إبريق الشاي" ويقارعون طواحين وهمية ويفتعلون حروباً نرجسية وعدوانية خيالية، مثل "دون كيشوت" في رواية للأديب الإسباني "ميجيل دي ثيربانتس"، "الدون كيشوت الرجل البرجوازي الذي تصور بعقله أنه فارس يتحتم عليه الدفاع عن الحق والعدل".

بدأ الفارس البرجوازي رحلته في مُطاردة مجنونة لقطيع الأغنام وصراع الطواحين، وهكذا هو راقص "إبريق الشاي" والمتحرر "المناضل السكير"، لقد تقمصا فروسية مغوار برجوازي، طلباً للتحرر من القيود المحيطة بهما. تلتهب الخيالات والأوهام، وتدار رحى معركة أمُ المعارك يقودها هوس الرجلين الراقصين ضد "الأخلاق والقانون" فيتمردان لأن؛ القيمتين الأخلاقية والقانونية تُعد قيدا يستوجب التحرر منه، وعلى نقيض لهما فهناك مُحارب بثوب مختلف، مقاتل أشوس يُلبس الدين درعاً، ويسلط رماح النصح والإرشاد والترهيب للجميع، وهناك مُنافحٌ يستظل تحت مظلة التَّقدم والتطور فيصرع كل من يُخالفه، ويعزل كل من لا يواكب نظرته الشمولية العلمية التقدمية.

"فقدان الهوية" أو "المرجعية المشوهة" هي مؤشر البوصلة المحطم في كل هؤلاء، فحين يُفقد الانتماء وتتشوه الهوية، يبحث الفرد عن مؤشر بوصلة بديلة، وهويةٌ أُخرى تفصيل، وانتماء جديد يجدد رغبته في الحياة والعيش فيجاهد لتحقيقه، ويتحلل ويتنصل من الارتباط بكل القيود المحيطة به. فيصنع وهمًا لمعارك طاحنة، ويعيش صراع الجبابرة واقعًا، ولن تنتهي صولاته وجولاته، وأخبار انتصاراته المُفتعلة إلا بقص شعر شمشون الجبار.