فقدان التوازن المجتمعي

حاتم الطائي

تأثيرات "السوشال ميديا" على المجتمع لا يمكن إغفالها

تحقيق التوازن عبر رؤية واضحة ومتماسكة لتعزيز الترابط المجتمعي

"مثلث العلاقات المتوازنة" سبيلنا لمواجهة أية اختلالات

التحديات التي أفرزتها التحولات الاجتماعية خلال العقد الأخير، وخاصة مع انتشار وسائل التَّواصل الاجتماعي، وسيل المعلومات المُنهمر عبر مواقع الإنترنت، سواء أكانت نافعة أو مُضرة، إلى جانب استمرار التأثيرات العنيفة للعولمة على المُجتمعات، كل ذلك تسبب في حالة من الاهتزازات المُجتمعية، ليس في عُمان وحسب؛ في كل دول العالم، ولذلك لم تعد الأجيال تتصالح فيما بينها، والخوف الكبير من تضخم صراع الأجيال، والظروف الراهنة يشي باحتمالية حدوث ذلك ما لم نتدارك الأمر.

والاهتزازات المُجتمعية حالة تمر بها المُجتمعات، خاصة في مراحل التحول والمُتغيرات التي تطرأ عليها، نتيجة لانفتاح على الآخر أو تسارع وتيرة التنمية، أو نشوء أجيال جديدة أكثر تطورًا وأعلى قدرةً على تغيير الرداء المُجتمعي القديم. وخطر مثل هذه الاهتزازات أنَّها قد تصيب المُجتمعات المُؤمنة بالقيم والأخلاق والعقيدة الدينية، فتنعكس تأثيراتها على الأفراد، ومن ثمَّ تنشأ حالة من عدم اليقين بشأن الأفكار المُتأصلة في المُجتمع، وربما المُعتقدات المُتجذِّرة في نفوس أفراده، فتبدأ حالة من التفكك والتَّشظي تصيب المُجتمع، ما تلبث أن تتحول إلى فوضى وغياب البوصلة وانعدام الثقة وتراجع الهمِّة وأفول العزيمة ووهن الإرادة قبل أن تصل إلى مرحلة الانهيار الجزئي أو التَّام!

ولمُواجهة تلكم الاهتزازات المُجتمعية، يتعيَّن تحقق التوازن المجتمعي، عبر تبني رؤية واضحة المعالم مُتماسكة الأركان قوية الجذور، ترسم مسارًا سالكًا نحو بناء مُجتمع مُتفاعل مع الآخر ومتداخل فيه، دون الانعتاق من شرنقته الأصيلة، التي تشكلت من ثوابته المُجتمعية الراسخة عبر سنين طويلة. وهناك ثلاثة مستويات للتوازن أو لنسميها "مثلث العلاقات المتوازنة".. أولًا: التوازن في علاقة الفرد بذاته وبمحيطه الاجتماعي. ثانيًا: التوازن في علاقة المُواطن بالدولة. ثالثًا: التوازن في علاقاتنا الخارجية مع العالم.

وخلال فترات مُمتدة من تاريخنا الطويل الضارب في القدم، استطاع الإنسان العُماني ومن ورائه الدولة العمانية، أن يُحقق هذه المستويات الثلاث من التوازن، وكلاهما قاد الآخر نحو هذا التوازن، فالإنسان العُماني بأخلاقه الدمثة ورؤيته الكونية المُتسامحة ومعدنه الأصيل نجح في بلوغ أقصى نقطة في العالم القديم، واستطاع إقامة علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية شهد له بها الجميع، وساهم ذلك في بناء دولة عُمانية مُترامية الأطراف، تحولت في مرحلة تاريخية مُضيئة إلى إمبراطورية عظمى ترسخ قيم التعايش والتآلف بين الشعوب المُختلفة، منضوية تحت رايتها بلا معارك ولا قتال! بل بالحكم الرشيد العادل ووفق قيم وثوابت ظلت صامدة لقرون.

كذلك الحال بالنسبة للتوازن في علاقة الدولة بالمُواطن، فقد ترسخت قيم المُواطنة منذ عصور طويلة، وظلَّ صوت المواطن مسموعًا لدى الحاكم، وتجلت هذه العلاقة المُتزنة على مدى سنوات النَّهضة الحديثة، فلم تتعرض هذه العلاقة للاهتزاز أو التذبذب؛ بل تماسكت وازدادت رسوخًا وقوةً، وانعكست ملامحها في تكاتف الشعب خلف قيادته الحكيمة، رافعين لواء الحق، والعزم على مُواصلة البناء الحضاري لدولتهم، محافظين على ما تحقق من مكتسبات ومنجزات شهد لها القاصي والداني، واستمرار هذه العلاقة هو حجر الزاوية الذي نرتكز عليه من أجل استمرار جهود البناء، من خلال مفهوم الشراكة والتَّعاضد.

أما بالنسبة للتوازن في علاقاتنا الخارجية مع العالم، فهذا جانب مُتصل بالعلاقتين السابقتين؛ حيث تحقق التوازن في علاقاتنا الخارجية- وهي امتداد لإرث عظيم- بفضل التماسك الداخلي والتلاحم بين القائد وشعبه، وأيضًا من خلال التماسك الذاتي للشخصية العُمانية، وإيمانها العميق بأنَّ التواصل مع الآخر عبر أسس وثوابت يُكمل الضلع الأخير من "مثلث العلاقات".

إذن أين تكمن الإشكالية؟!

الحقيقة أنَّ التحولات الاجتماعية والطفرات التكنولوجية وعولمة الثقافة والتعليم، كلها عوامل تسببت في تغيير آلية التفكير الإنساني، وهذا تطور بشري لن يستطيع إنسانٌ إيقافه، لأنَّها طبيعة الأمم، ودورة الحضارات لا تتوقف. لكن الواقع المَعيش في وطننا يُشير إلى أنَّ ثمَّة تأثيرات سلبية نحن في غنى عنها إذا ما امتلكنا رؤية واضحة لمُعالجة الاهتزازات المُجتمعية، وهذه التأثيرات السلبية تتجلى في فقدان البعض للتوازن النفسي، نتيجة للضغوط النفسية والاقتصادية العنيفة التي فرضتها جائحة كورونا. وتسبب ذلك في تغليب النظرة السلبية للحياة والمُجتمع، على حساب التفاؤل والإيجابية، فهناك من يزعم أنَّ الفساد مُستشرٍ في كل مكان، ويلقون بسهام الشَّك على كل مجالات الحياة، حيث تخلوا طوعًا عن اليقين وقرروا القفز في مركب الشك المخروقة في باطنها، فانزلقوا إلى هوة سحيقة من الضعف النفسي، والخوف يتعاظم من سعي مثل هذه الفئات إلى هدم النموذج الاجتماعي القائم على التَّماسك والتَّعاضد في أساسه. فمن يقرأ ويسمع ويُشاهد ما يدور على منصات التَّواصل الاجتماعي من سباب وقذف وطعن في الذمم دون دليل والاتهامات الجاهزة لرموز وطنية خدمت الدولة في مراحل مُختلفة، أو حتى تخوين الآخر المُختلف في الرأي أو وصفه بـ"المُطبِّل"، كل هذه أدلة على مساعٍ حثيثة من أجل هدم النموذج الاجتماعي العُماني، ولعل الدليل الصارخ الذي لا يقبل الشك ما شهدته تجمعات الشباب الباحثين عن عمل في صحار من أحداث شغبٍ مُؤسفة، نفذها موتورون أعمتهم غشاوة الفوضى وأطبقت على تصرفاتهم دوافع هدم المُنجزات.

المطلوب الآن، السعي المُشترك بين مُؤسسات الدولة العامة والخاصة، والخبراء والمتخصصين في علم الاجتماع، من أجل إعادة ضبط البوصلة المُجتمعية، عبر زيادة الوعي بضرورة الحفاظ على المُكتسبات الوطنية، والتمسك بالقيم الأصيلة مع مواكبة التطور الحضاري بلا شك، والتوقف عن تقليد الآخر دون جدوى سوى "التقليد وحسب".

وختامًا.. إننا أمام تحوُّلٍ مرحلي بالغ التعقيد؛ فتداعيات الجائحة والظروف الاقتصادية، تسببت في المزيد من المُشكلات والضغوط، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك مُبررًا للتَّخلي عن قيمنا وسمتنا العماني الأصيل، ولا يجب أن نفتح الباب أمام أطراف داخلية أو خارجية لكي تُحقق مآربها الخاصة، التي بلا شك لا تخدم المُواطن ولا الوطن، ولا مناص من ضرورة بناء سياجٍ مُجتمعي منيع، لحمايته من الأخطار المُحدِّقة، ومُواصلة الإبحار نحو شطآن الأمان والاستقرار.