"الحصان ما هاي ده"

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

 

الطبيب "ما هاي ده"- واسمه الأصلي جورج حاتم شفيق، رافق الزعيم الصيني ماو تسي تونغ لمدة 12 عاماً، وهو من ضمن 100 شخص أثروا في الصين، وساهم في بناء الصين الحديثة، وتكريماً لجهوده العظيمة إبان الثورة الشعبية وجهوده الحثيثة للقضاء على الأمراض المُنتشرة بالصين، فقد حصل على الجنسية الصينية، وأصبح بذلك أول عربي وأجنبي يحصل عليها.

جورج حاتم شفيق "ما هاي ده"- ويعني الحصان، ويرمز للفضيلة- المنسي لنا والعلم لغيرنا- هو لبناني الأصل أمريكي الجنسية والمولد. الرجل الذي لا يعرفه أحد ويعرفه ما يُقارب مليار صيني باسم "ما هاي ده"؛ أي الحصان، وهو ابن المُهاجر اللبناني نعوم حاتم ابن مدينة حمَّانا اللبنانية. هاجر والده إلى مدينة نيويورك؛ حيث ولد وترعرع  الطبيب جورج حاتم. هاجر الطبيب الشاب بعد أن أنهى دراسة الطب إلى سويسرا للحصول على شهادة الدكتوراه، ومنها هاجر إلى الصين ليُشارك بفاعلية في الثورة الصينية.

يعود الفضل لجورج حاتم في بناء المنظومة الطبية الصينية، وله الفضل كذلك في التَّصدي لعلاج مرض الجذام وأمراض الجوع المُنتشر آنذاك، من أقواله: "نشعر بأننا مسؤولون عن شعبنا كله لا عن الفرد، وحين نعتني بجميع النَّاس فإننا نعتني بالفرد أيضاً، فلا يوجد تناقض بين حقوق الشعب وحقوق الفرد". لا يسع القارئ لسيرته إلا أن ينبهر من تجريد الذات من التحزبية أو الروابط الفردية والمُعتقدات الذابلة، وهو أكثر ما يشدك في شخصه. هاجر جورج حاتم هجرة عكسية من أرض الأحلام والوعود والمُستقبل الموعود إلى أرض الأوبئة والأمراض والجوع والنوم على الأرصفة، كما وصف هو تلك الفترات، انتقل الشاب اللبناني بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الأمراض الجلدية والتناسلية من جينيف إلى شنغهاي وفتح عيادة هناك مع بعض زملائه، وانتهى به الأمر إلى الالتحاق بالجيش الأحمر والزعيم "ماو تسي تونغ". دُفن الطبيب جورج حاتم بعد وفاته في مقبرة عظماء الثورة الصينية، وسيرة الرجل حافلة بالنضال للعدالة والحق والقضاء على بؤرة الأمراض المنتشرة بين الصينيين من جذام وأمراض جلدية.

لكن السؤال لِمَ يُهاجر بعض الأفراد هجرات عكسية من قمة الراحة والأحلام، والمُستقبل الواعد إلى مستنقع أوبئة وثورات وجنون وقتل؟ ليتبنى معتقدات "إنسانية" كما هو الحال مع الطبيب جورج حاتم والطبيب تشي جيفارا. إذ إنَّ تشي جيفارا أيقونة الثورات الحديثة والقديمة، هو طبيبٌ أرجنتيني رافق الثورة الكوبية الماركسية، وهنا تتقاطع شخصية الرجلان، فكلاهما آثر التخلي عن مستقبلٍ هادئ وعيشةٍ رغدة، والذهاب في مسار الألف ميل لإحقاق العدل، حسب إيمان كل منهما. ويظهر الرجلان جانباً رومنسياً ثورياً في شخصيتهما، تتجلى شدته الانفعالية الحادة في شخص تشي جيفارا، والسكينة العقلانية في شخص جورج حاتم.

سألت والدتي يوماً: لم يُشقي الناس أنفسهم بالهجرة ومساعدة من لا يشبهونهم؟ فكل المعايير الماركسية والشيوعية مجنونة ومجحفة، أجابت والدتي: "إنِّه الجوع، البشر يهربون من سواد ليلٍ إلى نهارٍ دامس لأنه الخلاص، لا جوع معه".

حياة الشبع أشهى وأطيب من "العدالة الجائعة" فيُصبح التخبط لتحقيق العدل وفق معايير بشرية هلامية واقعٌ لا محال، فيتم اعتناق مُعتقدات وأفكار يكثر بها شعارات "الحق والعدل" وفي كينونتها، ما هي إلا إشباعُ لجائعٍ واتخامه. يقول فيلسوف- نسيت اسمه- إنَّ الإنسان الرأسمالي الحالي تخلى عن رسالته الحقيقية وهي إحقاق العدالة البشرية، وانشغل بتحقيق العدالة المادية وفق أُطر المتعة واللذة. وأعتقد أنَّه وافق رؤية والدتي "الجوع والشبع" ونفق الظلام بينهما، ومِشعلُ الثورات، وبالتأكيد ستنفجر ثورة للجياع الرأسمالية في مكان ما وهي  قادمة  لا محال.

(تحية لمُشعل النور في أروقة الظلام "جورج حاتم"، ولأمي التي لم تُشبه أحدًا، أنتم تحملون لنا مشاعل النور... عليكم جميعاً رحمةٌ من الله).