د. يوسف بن حمد البلوشي
يُدار الاقتصاد العُماني كغيره من الاقتصادات النفطية الريعية على أُسس محاسبية (مالية) صرفة، أساسها توزيع الإيرادات المتأتية من تصدير مواد خام هيدوكربونية للتأثير على باقي المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية؛ والتي تعكسها باقي الحسابات الكلية المُتمثلة في الحسابات القومية والمكونات المختلفة للناتج المحلي الإجمالي ودرجة تنوعها، إلى جانب حسابات ميزان المدفوعات وما يحصده من احتياطيات أجنبية جراء معاملاته مع العالم الخارجي: ماذا نصدر وماذا نستورد، وطبيعة أنشطة شركاتنا وما إذا كنا مُستهلكين أم منتجين؟! وأخيرًا انعكاسات كل ذلك على المعاملات النقدية في حسابات النقود والبنوك، وإلى أين يتجه الائتمان المصرفي؟ وهل هو للقطاعات الإنتاجية أم الاستهلاكية؟ وهل هو لرجال وشركات الأعمال أم لموظفي وشركات الحكومة؟
هذا التغول والانحياز في الإدارة الاقتصادية ينعكس في تحديد الأولويات الوطنية والتي بناءً عليها تنبرى أدوار وأنماط سلوكيات الأفراد والشركات بين تفضيل العمل الحكومي أو ريادة الأعمال، والشركات في القطاع الخاص بين الاستيراد للسلع والخدمات وبين الإنتاج المحلي، وكذلك المتعاملين من العالم الخارجي وتوجهاتهم نحو الاستثمار في ذلك الاقتصاد المحلى أو التصدير إليه.
الكثير من الخبراء والمتخصصين يتفقون على أن ترابطات وتشابكات والعلاقات المتبادلة يجب أن تبنى على توازنات دقيقة بين الإصلاح المالي والاقتصادي، دون انفراد المتغيرات المالية على حساب باقي المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وأن تبنِّى أسسٌ محاسبية بحتة في الإدارة الاقتصادية الكلية له عواقب وخيمة، لا بل إن غياب الإصلاح والتحفيز الاقتصادي قد يُؤدي إلى فشل الإصلاح المالي، وعدم تحقيق المُستهدفات المالية. ففي غياب نمو اقتصادي مستدام، وفي غياب وتيرة الأنشطة الاقتصادية، لا يمكن أن تتحقق العوائد المالية المرجوة. وقد ينتج عنه حرمان المجتمع والاقتصاد من تحقيق نقلات نوعية تُمكنه من تحقيق الرفاة الاجتماعي وتشغيل قاطرات القطاعات الإنتاجية المختلفة، والتي تحتاج إلى سياسات عامة كلية مجتمعة دون تغوّل للسياسة المالية، والتي تُعد جزء من السياسات الاقتصادية الكلية؛ كالسياسة النقدية والتجارية والاستثمارية والعمالية وغيرها من السياسات. وتغليب الجزء على الكل قد ينتج عنه تشوهٌ في الاقتصاد العُماني، يحرمه القدرة على التنويع الاقتصادي وبناء قطاع خاص مُنتج وفاعل وقادر على توليد الفرص المنتجة والمُستدامة. وينصب اهتمام نموذج الإدارة القائم على بنود محاسبية لإدارة توازنات المالية العامة بالتركيز على تحقيق التوازن المالي بشكل سريع (وهذه وصفة صندوق النقد الدولي)، وذلك على حساب التوازن الاقتصادي والاجتماعي.
ما نُريد قوله إنه ليس هناك تناقض بين برامج الإصلاح المالي وتحفيز الاقتصاد، وبإمكان الحكومة أن تسير في كلا الاتجاهين بالتزامن؛ لأن الإصلاح المالي يعني التشدد، فيما التحفيز الاقتصادي يعني التوسع، وعليه لا يجوز تعريض الإنتاج والطلب المحلي إلى مزيد من الضغوط، خاصة في هذه الفترة الحرجة، عن طريق فرض المزيد من الضرائب على القطاعات الاقتصادية والاستهلاكية. ونخلص من ذلك إلى القول إن التضحية بهدف الاستقرار المالي على حساب التحفيز، أمرٌ غير مرغوب على الإطلاق؛ لأن التحفيز الاقتصادي مطلوب أيضًا، وهو شرط أساسي؛ لتحقيق التوازن والتصحيح المالي. إذًا المطلوب في هذه الفترة، تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي في ظل معدلات نمو إيجابية؛ لأن التضحية بالإصلاحات مجتمعة، ينطوي على مخاطرة كبيرة، قد لا تنجح بعدها لا السياسات التوسعية ولا التحفيزية!
الإصلاحات الاقتصادية يجب أن تُطال محاور عديدة؛ ففي القطاع الخاص ينصب الاهتمام على تحقيق الربح السريع من البيع والشراء، وخلق وظائف متدنية المهارة بعيدًا عن التصنيع والاستثمار في مشاريع صناعية وزراعية وسمكية وغيرها والتي تحتاج إلى فترات زمنية طويلة لتؤتي أُكلها. كما إن دورة الأنشطة التجارية المحلية تسير في اتجاه واحد؛ حيث يتم تلبية الطلب من خلال استيراد السلع والخدمات والعمالة، وبما ينعكس في خروج سريع لرؤوس الأموال إلى الخارج، ولذلك تتصف هذه الاقتصادات بأنها "اقتصادات هشة"، وتعتمد اعتمادًا مفرطًا على عوامل خارجية من حيث إن مدخلات هذه الدورة تتمركز بشكل كبير في تصدير النفط والغاز كمواد خام أولية بشكل ملحوظ، دون إجراء عمليات ذات قيمة مضافة محلية، تعمل على خلق صناعات مختلفة، من شأنها توسعة القدرات الإنتاجية المحلية. وما يُبرهن على هشاشة هذا النوع من الاقتصادات؛ سرعة دخول وخروج الأموال في الدورة الاقتصادية المحلية وعدم استقرارها، لضمان تعظيم متانة الاقتصاد، وفي المقابل حرمانه من إيجاد صناعات محلية قادرة على خلق فرص عمل، وجذب استثمارات وفتح أسواق لتصدير المنتجات المحلية. لذلك يُلاحظ أن هناك ضعفًا في قيمة "مُضاعِف الإنفاق".
في حين أن الدول المتقدمة- والتي تنعم بالاستقرار الاقتصادي والاجتماعي- تتبنى مقاربة مختلفة في الإدارة الكلية، وتعمل على تحقيق توازنات كلية بين الحسابات الاقتصادية الكلية الأربعة، وأدوار الفاعلين لتنفيذها، وذلك من خلال سياسات عامة كلية صارمة، لا تتيح التغول والتحيز لأية سياسة على باقي السياسات. ويتبنى النموذج المتوازن إعطاء وزنٍ واهتمامٍ لمتغيرات أخرى، ديدنُها تنويع وتكبير حجم الاقتصاد، وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، والمزيد من الانفاق الراسمالي لتهيئة البنية الأساسية والظروف التي تُساعد على انطلاق مشاريع إنتاجية محلية وتوليد وظائف. لذلك دائمًا ما ينصب اهتمام الدول- التي في مصاف الدول المتقدمة- في اتجاه زيادة المُدخلات، من خلال زيادة الصادرات، ورفع التنافسية لجذب الاستثمارات، والبحث عن إنتاج سلع وخدمات جديدة، والولوج إلى أسواق جديدة. أما الاتجاه الثاني فيتمثل في إيجاد سياسات عامة تعمل على الحد من التسربات من داخل الدورة الاقتصادية المحلية.
ختامًا.. إن فرض نموذج التنمية القائم على الحكومة والإيرادات النفطية له خصائص معينة، وهي ليست حصرًا على السلطنة، وإنما تُعاني منها معظم الدول النفطية. ولدينا مقومات ومساحة كافية؛ لتقويم المسار وتغيير الممارسات في النموذج المحاسبي الحالي؛ الأمر الذي يستلزم اتخاذ سياسات مُتلازمة للتأثير على الأطراف الأربعة المختلفة الفاعلة في عملية التنمية. وقد نادينا في بداية العهد الجديد بضرورة وجود فريقين: "الأزرق" لإدارة الأزمات الناجمة عن جائحة كورونا، وتدهور أسعار النفط وتحقيق الاستدامة المالية يرتكز عمله على اتخاذ قرارات فورية والتفاعل مع الأحداث اليومية، وفي نفس السياق هناك أهمية للفريق "الأخضر"، يقوم بإدارة التحولات والنقلات النوعية، في الأجل القصير والمتوسط والطويل، بعيدًا عن الضغوط الإدارية الكبيرة التي يتعرض لها الفريق الأزرق بشكل يومي والمطالب باستجابات وقرارات سريعة.
إن المطلوب اليوم حلولٌ واقعية، حتى وإن كانت جراحية، ولو أن الحكومات استجابت في وقت سابق لضغوط أحادية المورد لما كانت الحلول أكثر صعوبة.