الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)
ارتبط "الكيك" بأعياد الميلاد وحفلات الزفاف والمُناسبات السعيدة، مثلما ارتبط الكيك بالتقسيمات وتوزيع الحصص، وكذلك بامرأة من زمن الإمبريالية هي "جيرترود بيل"، أو كما لقبها الشاعر العراقي عبد المجيد الشاوي "أم المُؤمنين".
إنها سليلة عائلة أرستقراطية استهوت اللعب بالصحاري والتجوال على ظهور الجمال. لعلها سخرية القدر أن تأتي إلى العراق امرأة إنجليزية نبيلة عالمة، وخريجة أعرق الجامعات "أكسفورد" تخصصت في علم الآثار بعينيها الخضراوين، وفؤادٍ مُحطم بعد تجربة حبٍ فاشلة، انتهت -لاحقاً- بالتمهيد إلى تقسيم الشرق بما عُرف باسم اتفاقية "سايكس- بيكو"، وتنصيب "الملك فيصل الأول ملك مملكة العراق"، وإزالة مُلك "آل الرشيد"، وإنشاء دول حديثة ورسم حدودٍ دول عربية.
ما كان لاتفاقية "سايكس- بيكو" أن ترى النور لولا مُهندسها "لورانس العرب" ونسخته الأنثوية "أُم المؤمنين، ميس بيل". حقًا إنى لأعجب من ولائهم المُنقطع النظير لخدمة التاج البريطاني، وأضحك باستخفاف شديد من تقلب ولاءات الطُغم الضالةِ من بني جلدتنا العربية، هم الثقوب السوداء التي تنتشر على رقعة ثوب، تاريخنا الحافل بالخيانات الطردية. قسمت ووزعت "كيكة الشرق" تحت ذريعة عرقية قبلية عروبية وطنية قومية، أو أي مسمي آخر.
الطريف أنَّ الجاسوسين "أُم المؤمنين" و"لورانس" كلاهما خريج جامعة أكسفورد وكلامهما مولع بالآثار والشرق. هما أكاديميان، فقد وضع لورانس كتاب "أعمدة الحكمة السبعة" وبه عُصارة تجربته السياسية في إدارة الأنظمة السياسية في الشرق، بينما لجيرترود بيل كتاب "الصحراء والزرع"، لخصت فيه أبحاثها وجمال الصحراء ومجاهيلها وأسرارها. فما السر في أن يكون الجاسوس أكاديميا مُختصا؟ وكم أفرزت المؤسسات الأكاديمية العريقة من جواسيس تحت غطاء عالم أو باحث عبر العصور؟
الصبر فضيلة، وهكذا هم جواسيس الاستشراق الأكاديميين، صبورين ومستمعين جيدين، وإلا لما عُرفت ميس بيل بملكة العراق غير المُتوجّة. أن تقضي جُل وقتك في الاستماع، وفرز وتحليل الشخصيات، وتحديد أسلوبٍ تُرغب وتُغري وتُزين الخيانة لمن سيُساعد ويساهم في الخراب هو أمرٌ يتطلب جلادة، ويلتحق بركب الغزاة الكثير من الثقوب السوداء الطامحين للسلطة فيغضوا أبصارهم عن فداحة الجبن والخنوع الذي أوقع نفسه فيه طوعًا. وقد أبرز المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" غياهب تلك العلاقات بين الاستشراق الأكاديمي و"الاستعمار" كما يُقال و"الاستدمار" بتعبير أفضل، فلا بلدٌ عُمّرت، بل جميعها نُهبت.
بحور الاستشراق الغائرة والمعتمة، هل هي خلاصة أبحاثٍ لسبر أغوار تاريخنا وعلومنا المعروضة في متاحف غربية تحت مسمى "علوم إنسانية"، هي أشبه بشعرات عشواء في ذقن المروءة الغاشمة، ولا يفتأ بعض الأكاديميين والمثقفين يستشهدون ببعض الآراء المسومة للمستشرقين. ولن نطغى -هنا-ولنكون منصفين، هنالك مستشرقون لهم فضل في تحقيق مخطوطات إسلامية مسلوبة ومنهم جورجيو ليفي دلافيدا؛ وهو أحد المستشرقين الإيطاليين -يهودي الديانة- ساهم في تحقيق مخطوطات إسلامية من مكتبة الفاتيكان، ووضع مع زميلٍ آخر "موسوعة المعارف الإسلامية". لذا وقبل التحكيم القطعي والاستشهاد بالمستشرقين، يتوجب علينا التحقيق والتمحيص واتباع خطوات علمية دقيقة لغربلة كل ما توارثناهُ عنهم، فمثلاً حفظ التاريخ شخصية "قراقوش" ونسب إليه أحكام غريبة وعجيبة، وفي أصلها هي تأليف "ابن مماتي" المنافس لقراقوش، وأسقط التاريخ فضل "بهاء الدين قراقوش" في بناء السور المُحيط بالقاهرة والقناطر والجيزة في مصر.
نفض الاستشراق ثوبه القديم وارتدى حُلة جديدة وهي "طوع كلبك ينصاع لك" فما أسهل شدَّ اللجام بصورة، وفيديو قصير لا تتجاوز مدته دقيقة ونصف الدقيقة، وما أكثر الدعوات المجانية، لمؤتمر، أو رحلة استجمام، أو الإقامة في فندق فاخر، مع برنامج ترفيهي، لكن لم يعد الأسياد هم ذاتهم قبل قرن من الزمن.
الآن ونحن على أعتاب عالم مفتوح فوضوي كثر فيه المعتوهون، وتكاثرت الطفيليات، وخُيِّل لهم أنهم الأسبارطيون الجُدد! فلا تتعجب من قيَّح الأيام وقُبحِها، فهي نتاجٌ طبيعي لكعكةٍ قسمت قبل مِئة عام. وأجيال الخيبات والنكبات تقرأ عن الكيك وحصصه والمسارات المُلتهبة التي حُددت على الخرائط، وننبهر بمستشرقٍ حاذق، قسم جدك وجدي، بكل علمٍ وأدب وأشكر له هذا اللطف بعد كل ما أشاهدهُ اليوم من قلة أدب.