الباحثون.. والحلول الإنتاجية

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، من تعذَّر عليه الرِّزق فعليه بعُمان- رواه الطبراني- نعم إنَّ هذا الحديث يتحدَّث عن الغبيراء أرض الفرص عُمان والتي لم تضق على الغريب، فكيف لها أن تضيق على أبنائها. ولا شك أنَّ هناك فرص عظيمة للباحثين عن عمل في مُختلف القطاعات الإنتاجية، ولكن ينبغي التعامل مع هذا الملف بجسارة، ومعرفة عميقة بالأبعاد المختلفة للتنمية. فتأخرنا في تطبيق الحلول الإنتاجية منذ فترة طويلة هو ما وصل بنا إلى خيارات صعبة، وستكون أصعب في المرحلة القادمة إذا ما استمر مفهوم (الأمور طيبة) وإلقاء اللوم على كورونا وأخواتها. في حين أنَّ مشاكلنا الاقتصادية والمالية تتعمق وتتعقد وتتزايد أعداد الباحثين عن عمل، وتضعف وتغلق شركاتنا في القطاع الخاص. ولقد تناولنا في كتاباتنا السابقة ضرورة النظر إلى قطاعاتنا التقليدية كأحد بدائل الحلول الإنتاجية، وذلك من خلال فلسفة تنموية جديدة تُحقق العديد من الأهداف التنموية.


إن الاستمرار في إيجاد فرص عمل في القطاع العام يحرم القطاع الخاص الطاقات والسواعد التي يحتاجها لينهض، كما إن مشكلة الباحثين عن عمل هي إحدى مشاكل الاقتصاد الكلي ولن تحل إلا على المستوى الكلي، ويتطلب تدخل جميع الفاعلين وليس بعضهم من خلال تعزيز النمو الاقتصادي، وتوسيع القاعدة الإنتاجية والصناعات التحويلية ذات المحتوى التكنولوجي المرتفع، وجذب الاستثمارات الأجنبية والنهوض بالقطاع الخاص. وهناك ضرورة مُلحة للاهتمام ببرامج التأهيل والتدريب المُكثف في المرحلة الأولى.

 

الحديث هنا عن إقامة عشر مزارع نموذجية عملاقة بين 200-300 فدان، للمحاصيل المختلفة كالموز والليمون والنارجيل والخضروات وغيرها وذلك؛ لتحقيق أهداف متعددة الأبعاد من بينها خلق فرص عمل مُنتجة، تنويع القاعدة الإنتاجية، تحقيق الأمن الغذائي، تنمية المحافظات، تعظيم الاستفادة من البنية الأساسية من شبكة طرق وموانئ ومطارات، وتفعيل دور سفاراتنا في الخارج لفتح الأسواق وزيادة التبادل التجاري وجذب الاستثمار. وتحقيق التحول المنشود في رؤية عُمان 2040 إلى اقتصاد أساسه الاستثمار والإنتاج والتصنيع. تتضمن هذه المزارع الذكية مختلف أنواع الزراعة التقليدية والحديثة، وتربية الثروة الحيوانية والاستزراع السمكي والمناحل وغيرها، ويكون هناك فريق عُماني جاهز لتسويق منتجاتها محليًا وخليجيًا وعالميًا. فهذه المزارع التي ستنتشر في محافظات عُمان الزراعية ستخلق الآلاف من فرص العمل بطريقة مباشرة وغير مباشرة وخاصة في ضوء التطور التكنولوجي، وتوافر البدائل المختلفة لتعامل مع مشكلة المياه وملوحتها. ومن جانب آخر الدخول في شراكات أجنبية متخصصة في تكنولوجيا الزراعة الحديثة، وأخرى في تكنولوجيا المياه وأخرى في تسويق مخرجات هذه المزارع العملاقة.

وبالنسبة للمحافظات المُطلَّة على الشريط الساحلي، فهناك الاستثمار في مائة سفينة كبيرة للصيد الساحلي الكبير قد تخلق كل سفينة فرص عمل لأكثر من 25 شاب للسفينة الواحدة التي تستمر في رحلتها لمدة عشرة أيام وعلى متنها عشرة شباب. تعمل هذه السفن بأفضل أنواع التكنولوجيا والأمان. ويلحق بهذه السفن مراكز لتجميع منتج الصيد وتجهيزه ونقله وتصديره. ولنا أن نتخيل الآلاف من العُمانيين الذين سيعملون في هذين القطاعين والقفزات الكبيرة في الناتج المحلي لهذين القطاعين، وتحريك الموانئ والنقل مع جهود السفارات التي تفتح لنا الأسواق، والبنوك التي تشترك في تمويل هذه المشاريع، ومراكز الابتكار التي تُبدع في ابتكار أفضل التكنولوجيا لإدارة المياه والمحاصيل، وابتكار الأساليب المتطورة للصيد وما يرتبط بكل ذلك من صناعات وأنشطة تجارية مباشرة وغير مُباشرة.

ويمكن تكرار كل ذلك في إنشاء مجمعات لصناعات محددة نعتمد حاليا على استيرادها بشكل كبير. تتضمن هذه المجمعات الصناعية المتكاملة كافة الخدمات الأساسية، والبنية التحتية والتسهيلات الضرورية لنجاحها، تعمل هذه المجمعات بالترابط الأفقي وتستفيد من بعضها وهي وسيلة ناجحة لإحلال الواردات بمنتجات محلية باجتذاب المستثمر الأجنبي، وكذلك تعزيز الصادرات إلى العالم، وتعظيم الاستفادة من المكانة المرموقة للسلطنة والاتفاقيات التجارية والموقع الجغرافي. ومن الأمثلة على تلك المجمعات والحاضنات الصناعية على سبيل المثال لا الحصر صناعات الأدوية البشرية والبيطرية، الاستزراع والصناعات السمكية، والبتروكيماويات، وصناعات المواد الغذائية وغيرها. وذلك بهدف تحقيق نمو اقتصادي مستدام يُعزز من مكانة السلطنة في سلاسل التوريد العالمي.

ولا يحتاج البدء في هذه المشاريع إلى موازنات ضخمة ولا تحضيرات قياسية كتلك التي تعودت عليها الشركات الحكومية، وإنما يحتاج إلى شغف الإنجاز وتحقيق حلم كل شاب عُماني بوظيفة منتجة ودخل يضمن له الحياة الكريمة. ولن يعني ذلك بأي شكل من الأشكال تخلفنا عن مسار الحداثة وتطبيقات الثورات الصناعية، بل تهيئة عملية لها بتوظيفها في هذه المزارع والقرى والمجمعات بشكل كبير. كما لا يعني ذلك أننا نتخلى عن طموحاتنا في بناء صناعات دقيقة ومعقدة ومتقدمة، ولكن ما نستعرضه ما هو إلا تدشين لثقافة العمل الإنتاجي التي ينبغي أن تبدأ من قطاعاتنا المختلفة. ولنتفق أن الحكومة ليست هي المكان الأنسب للإنتاج والاستثمار والتصدير. وينبغي أن يترافق مع كل ذلك العديد من سياسات عامة وأطر واضحة ومن بين هذه السياسات التي ستدفع الحد من منح تراخيص الصيد للسفن الأجنبية، وتعزيز منظومة نقل المنتجات والأسماك طازجة من المنتج إلى المستهلك، وكذلك وضع سياسات صارمة من شأنها الحد من منافسة المنتجات المستوردة للمنتجات المحلية.

وأيًا ما كان الأمر، وأخذاً في الاعتبار أن التنمية ليست عملية تحدث تلقائيا ولا مصباح  كهربائية نضيئه متى نشاء، ولكنها عملية إصلاح شاملة وتعتمد بدرجة ملحوظة على رغبة وإرادة أفراد المجتمع. فالتحرك في الوقت المناسب وبالسرعة المناسبة بات أمراً لا مناص منه، والجميع مطالب بشحذ الهمهم نحو مضاعفة العمل؛ لتحقيق التحول المنشود. فيجب على أجهزتنا المعنية بالدفع بملفات الباحثين عن عمل، وعلى أجهزة الاقتصاد والصناعة والاستثمار أن تنفض الغبار عن مفاصلها، وتنطلق بواجباتها وتغير من قناعتها وأطرها فهي لا تزال نظرية وتقليدية وبطيئة وخجولة في زمن يحتاج إلى تنفيذ وابتكار وسرعة وجسارة. فزمن التمني لا يُحقق عوائد في عصر الأرقام، إنما زمن التفكير الجاد للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية الناجمة عن تزايد أعداد الباحثين عن العمل، وارتفاع الدين العام وتدني التصنيف الائتماني وارتفاع درجة عدم اليقين والضبابية.

وختامًا.. لقد أخذنا وقتنا الكافي في ترتيب الأفكار والهياكل والمكاتب، ولنبدأ العمل فالمقومات والموارد والمساحة كافية فلنؤمن بقدراتنا، وبأن مستقبلنا بأيدينا وليس بأيدي الغير وأننا من يصنع المستقبل والفرص وعُمان أمانة فلنحافظ عليها.