صرخة ضحي

سالم بن نجيم البادي

 

لا يستطيع ضحي أن يذهب إلى الجبال ويصرخ حتى توشك أن تتمزق أحباله الصوتية كما يفعل الكاتب عبد الله الفارسي حين يشعر بالحزن وتعضه الحياة بأنيابها الشرسة، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، حاول ضحي أن يفعل ذلك، وقد اعتاد قراءة مقالات عبد الله الفارسي، بعد أن وصلته رسالة من أديبة عربية تقول فيها: "حضرتك وكاتب آخر اسمه عبد الله الفارسي تكتبان أصدق وأجمل المقالات. ربنا يوفقكم"..

وحين ذهب إلى الجبال الشاهقة والأودية السحيقة همَّ بالصراخ، لكنه توقف فجأة، فقد تخيل وهو وحيدًا تُحيط به الوحشة، ويلفه السكون والصمت، أن الجن سوف يهجمون عليه من كل ناحية في تلك الجبال الممتدة إلى ما لا نهاية، وأن كل الدواب والهوام والحيوانات سوف تأتي إليه لترى ما الذي يحدث، وكان أخر عهده بالصراخ عندما كان طفلًا، وكان يذهب برفقة الأطفال ويصرخون بأعلى أصواتهم "يا بنت الجبل تبي سح ولا لبن"، وهذا الصراخ لم يكن هروبًا من الألم ولا تنفيسا عن الهموم، وإنما من أجل المرح واللعب واللهو حين يتردد صدى الصوت، وتعود إلينا أخر كلمة نطقنا بها "سح أو لبن"، وعلى ذلك فإن بنت الجبل ترغب مرة في اللبن ومرة تريد السح!

ودارت الأيام فصار الصراخ مكتوما ولا يتردد صداه إلا في أعماق النفس، فيزيدها توترًا وقلقا حتى تكاد أن تنفجر.

كثيرة هي أسباب الرغبة في الصراخ في ظل تعقيدات ومتطلبات الحياة المعاصرة، وعلى المستوى الشخصي لا يمكن تعداد مرات الإخفاق والفشل وموت الأمنيات والعجز عن بلوغ تحقيق كل أحلامنا، وحتى التي فرت من بين أيدينا بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى، ومخالطة البشر على اختلاف مشاربهم وأخلاقهم ومعتقداتهم الفكرية يولد منغصات لا حصر لها، الغيبة والنميمة والحسد والتنافس غير الشريف والنفاق والكلام الجارح والتدخل في الشؤون الشخصية وذكر الأعراض، والسخرية والافتراء ونقل الشائعات وسوء الظن والظلم، ولا يمكن الهروب من أذى الناس إلا بالتجاهل والتجاوز والعفو الصفح والإعراض والوحدة قدر الإمكان وتفويض الأمر لله.

سرنا في دروب الحياة الوعرة، وليس كل من سار على الدرب وصل، كما يدعي المتفائلون أكثر مما ينبغي، ومن يحترفون بيع الوهم للناس، وأهل برامج الصباح في الإذاعات.. قد نصل إلى نهاية الطريق بعد عقبات وعثرات كثيرة وتضحيات جمة، وقد نصل إلى منتصف الطريق.

تحضرني هنا كلمات من أغنية نجاة الصغيرة تقول فيها "وفي وسط الطريق ووقفنا وسلمنا وودعنا يا قلبي // ورجعنا في طريق وحدينا ودموعنا في عينينا يا قلبي // ورجعنا الطريق لوحدينا من غير كلمة وداع // كل واحد فينا حس إنِ أملُه الحلو ضاع // ودعنا الحبايب وفرقنا الحبايب // ووصلنا النهاية... آه من قبل النهاية". الأغنية من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدي.

إنها نجاة الصغيرة التي استمع إليها منذ الصغر وحتى الآن، وقد عجزتُ عن استبدالها بفنان أو فنانة أخرى على كثرتهم في هذا الزمن، فصوتها الدافئ وفنها الراقي وشيء ما يجعلني أسيرًا لفنها، وكنت أحتفظ بجميع أغانيها، وذات سنة مرت علي ضغوطا هائلة من ربعي المطاوعة؛ لأن "الغناء حرام"، ولم تطاوعني نفسي أن أتلف الأشرطة، واهتديت أخيرًا إلى فكرة إهداء الأشرطة إلى الدكتور المصري الذي كان يدرسني، والذي رحب بالهدية وشكرني عليها، خاصة بعد أن عرف سبب التخلص من الأشرطة، وقد لا نصل إلى نهاية الدرب الذي رغبنا في الوصول إلى نهايته، لكنها سنة الحياة الدنيا التي ما نفتأ نجري خلفها حتى ينقضي العمر بسرعة مُذهلة، ونحن نلهث جاهدين نبحث عن السعادة والاستقرار والإنجاز والتميز والعيش الكريم لنا ولمن نحبهم أو الذين اقتضت الظروف أن نكون نحن وهم في سفينة الحياة معًا ولا ننال إلا ما كتبه الله لنا.

يجيب ضحي على السؤال المتكرر: هل الكُتاب والأدباء والشعراء والرسامين والفنانين هم أكثر الناس معاناة؟  والجواب أن هولاء يعبرون عن معاناتهم ومعاناة الآخرين من خلال الإبداع؛ هم يتكلمون في أغلب الأحيان نيابة عن المسحوقين والغلابى والمساكين ومن لا منبر لهم ولا صوتَ... لذلك هموم هولاء مزدوجة ومركبة ومضاعفة.

كورونا يحصد الأرواح، ويعبث بالاقتصاد العالمي ويمنع السفر ويجعلنا نتوجس من فكرة السفر، وموسم الأسفار قد حان ومن ألف السفر شق عليه البقاء حبيس الحر والروتين، وتأقت نفسه للانطلاق في أرض الله الواسعة.

أخبار الأزمات والحروب والجوع والتهجير القهري تزكم الأنوف، وتجلب الهم والغم والضغط والسكر، والعرب من بني جلدتنا لا يخفى حالهم، فأين المفر يا ضحي أيها الجبلي القُح؟ إنها الجبال.. فهي خير ملاذ في مثل هذه الأوقات.