الصناعات الهندسية.. الصعب المتاح

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي

باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

 

قبل بضعة أشهر نشرتُ على إحدى صفحات جريدة الرؤية مقالًا بعنوان "الصناعة قاطرة النمو وعربة التقدم"، تحدثتُ فيه عن أهمية الصناعة من حيث إسهامها في زيادة القيمة المُضافة في الاقتصاد وفي خلق فرص العمل وفي البحوث والتطوير، إلى غير ذلك من إسهامات على الصعيد الاقتصادي-الاجتماعي.

وقبل أيام نقلت وكالة الأنباء العُمانية ووسائل إعلام أخرى خبرًا عن مصنع لإنتاج السلالم والمصاعد يعمل في منطقة البريمي الصناعية، وقد أقيم المصنع بالتَّعاون مع شركة أجنبية مُتخصصة في هذا النوع من الصناعة، جاء في الخبر، أن المصنع تأسس في عام 2012، وأنه أصبح لديه نوافذ لتوزيع مُنتجاته داخل السلطنة وخارجها. ومما ينبغي الإشارة إليه عند الحديث عن هذه الصناعة أن المنتج النهائي يتكون من عدة أجزاء، منها المحرك الكهربائي والصفائح والأعمدة والكابلات المعدنية والألواح الزجاجية، وكذلك المفاتيح الكهربائية والإلكترونية وغير ذلك من الأجهزة والقطع اللازمة لتشغيل المصعد واستخدامه. ويصنف هذا النوع من الصناعة بأنَّه من الصناعات الهندسية أو الصناعات الإلكتروميكانيكية، وهي في الغالب صناعات تجميعية؛ أي أنها مكونة من عدة أجزاء، تنتج غالبًا في عدة مصانع وليس في مصنع واحد، وربما في عدة بلدان. ويتم في المرحلة النهائية تجميعها وتركيبها في المصنع الذي يحمل اسمها، فيقال مصنع المصاعد أو مصنع السيارات أو مصنع الطائرات… إلخ، وفي ذلك المصنع يأخذ المنتج كذلك علامته أو اسمه التجاري. وأثناء عملية التجميع، وعندما يخرج المنتج في صورته النهائية، يكتسب المنتج الوضع القانوني، أي يأخذ صفة "المنشأ الوطني" للبلد الذي تم تجميعه فيه ومن ثم تصدر له "شهادة منشأ" من الجهة المعنية بإصدار ذلك النوع من الشهادات، وذلك بعد أن يكون قد اكتسب "القيمة المضافة" اللازمة لاعتباره منتجًا محليًا، بحيث لا تقل قيمة المكون المحلي فيه عن نسبة معينة.

وقد تم التعارف بين معظم الدول أنه لكي يعتبر المنتج محليًا أو وطني التصنيع والإنتاج؛ فيجب أن لا تقل نسبة "القيمة المضافة" أو المكون المحلي فيه عن 30% من إجمالي قيمة مكوناته، والتي تشمل عدة عناصر، منها اليد العاملة والطاقة اللازمة للإنتاج والقطع المحلية الصنع فيه… الخ. وفي الحقيقة أن معظم الصناعات سواء الثقيلة أوالخفيفة هي صناعات تجميعية؛ أي أنها مكونة من عدة قطع وأجزاء، تصنع في أكثر من مصنع، وكلما كانت الصناعة أضخم وأكبر، زاد اعتمادها على صناعات ومصانع أخرى محلية وخارجية، وهكذا ينشأ ما يسميه الاقتصاديون "الترابطات الأمامية والخلفية" في الصناعة والاقتصاد، ويتم كذلك التخصص في الإنتاج أوتقسيم العمل، الذي هو سمة مهمة من سمات الصناعة والاقتصاد الحديث. ولذلك يمكن القول إن الصناعات الهندسية هي القاعدة التي تُبنى عليها كثير من الصناعات، وهي الطريق الذي تتقدم عليه الصناعة نحو منتجات أكثر تطورًا وتعقيدًا.

وبالنظر إلى ما تستورده السلطنة من المعدات الثقيلة وبتحليل مكوناتها، خاصة تلك التي تستخدم في قطاع الإنشاءات وقطاع النقل، يُلاحظ أنها تحتوي على مكونات وقطع عديدة يمكن إنتاجها محليًا، بما فيها من مواد حشو أو كتل خرسانية أو أثقال للتوازن. وإذا تم إنتاج تلك القطع والمكونات بكفاءة وجودة عالية فيمكن أن يؤدي ذلك إلى تخفيض أسعار بعض الأجهزة والمعدات المستوردة؛ حيث إن بعض السلع توصف بأنها غير قابلة للاتجار "non-tradeable" بين الدول، وذلك بسبب صعوبة أو ارتفاع تكاليف شحنها ونقلها.

وعليه.. فإنه إلى جانب صناعة السلالم والمصاعد الذي وردت في الخبر المُشار إليه أعلاه، فإن هناك صناعات هندسية تجميعية كثيرة يمكن إقامتها في السلطنة، خاصة تلك المتصلة بصناعة المعدات الثقلية مثل الرافعات وبعض أجزاء الشاحنات والمقطورات، أو الصناعات الهندسية والميكانيكية المرتبطة بقطاع النفط، أو تصنيع أنظمة الري والمعدات الزراعية، وكذلك بعض قطع غيارات السيارات والمعدات أو قطع الغيار التي يحتاجها الحوض الجاف لصيانة وإصلاح السفن. ومعظم هذا النوع من الصناعات لم يعد فيها أسرار صناعية؛ أولًا تتمتع بحقوق ملكية فكرية أو براءات اختراع، بحيث يحرم على غير أصحابها تصنيعها وإنتاجها.

من خصائص الصناعات الهندسية أن معظمها "كثيف العمل"؛ أي يمكن أن تُولِّد كثيرًا من فرص التشغيل، خاصة لذوي المؤهلات الهندسية والمهنية، سواء من خريجي الكليات التقنية والمعاهد المهنية، أومن هم دون ذلك ويمكن تأهيلهم وتدريبهم لشغل بعض المهن. كما أنه مع اتساع هذه الصناعات تتوسع القاعدة الصناعية، وتمهد الطريق لصناعات أكثر تطورًا. هذا إضافة إلى أن تصنيع بعض أجزائها أوتجميعها محليًا قد يُساعد على تخفيض أسعار بعض المعدات.

لذلك فإنه من المناسب عند إصدار تراخيص الاستيراد، مراعاة أن يطلب من موردي بعض أنواع المعدات أن يتم تصنيع بعض القطع فيها في مصانع محلية. لكنه لابُد في ذلك من التنسيق والتفاهم بين المصنعين ووكلائهم أو الموزعين لمنتجاتهم. والأهم من ذلك أن تقوم الدول النامية والتجمعات الاقتصادية بطرح موضوع ربط التجارة بالتصنيع في إطار منظمة التجارة العالمية، أوفي إطار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية أوغيرها من المنظمات الإقليمية والدولية.

يجب العمل على إيجاد بيئة صناعية تكاملية بين الدول، وأن لا يترسخ الوضع الحالي أو يطول أمده، وهو وضع يقسم العالم إلى دول مصنعة قليلة تستطيع إنتاج كل شيء وتصديره دون قيود، ودول أكثر تستورد وتستهلك ما تنتجه الدول المصنعة دون قدرة على فرض قيود مؤثرة على ما تستورده منها.

إن المطلوب في المرحلة المقبلة أن تكون المعادلة في التجارة الدولية هي "التجارة مقابل التنمية" وليس وفق المبدأ السائد منذ عدة عقود، لا سيما بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهو مبدأ "المعاملة بالمثل reciprocity"؛ أي فتح الأسواق المتبادلة. وليس من الإنصاف أو العدالة في شيء أن تفتح الدول النامية أسواقها للواردات من الدول المصنعة، وهي التي سبقتها في التصنيع بزمن طويل، ولديها من الإمكانات والقدرات ما لا يتوفر للدول النامية. كما إنه من المناسب أن يكون موضوع تنمية الصناعة والنهوض بها بندًا أساسيًا في الاتفاقيات الاقتصادية التي توقعها السلطنة مع الدول الأخرى، وأن يكون كذلك ضمن بنود مفاوضات اتفاقيات التجارة الحرة التي تتفاوض عليها السلطنة، ودول مجلس التعاون مع دول أخرى.

تعليق عبر الفيس بوك