آمالك يا وطني!

 

مدرين المكتومية

لا شك أنَّ موضوعَ السَّاعة، الأحداثُ التي شهدتها بعض الولايات خلال الأسبوع الماضي، والقرارات الحكومية التي صدرت في أعقاب هذه التَّجمعات، لستُ هنا بصدد الحديث عمَّا شاب هذه التجمعات من تصرفات رفضها المجتمعون في الشارع قبل الجالسين في منازلهم، لكنني أودُ تسليط الضوء على مغزى وجوهر هذه الأحداث، أولها الاعتراف بما هو قائم من أزمة عمل، ناتجة عن مُتغيرات وظروف مُتعددة ومُتشابكة ومُعقدة، عنوانها الأبرز الإشكاليات الاقتصادية والصحية، لكن في باطن هذه الإشكاليات هناك أزمة أعمق وأكثر وضوحًا، أزمة البحث عن الأمل..

فشبابنا الذي خرج إلى الشارع لكي يعرض مطالبه ويُناشد حضرة صاحب الجلالة السُّلطان المُعظَّم- أيده الله ونصره- لم يستهدف فقط رفع لافتات تُطالب بالتوظيف، لكن ثمَّة لافتات أخرى لم يرفعها هؤلاء، إنها لافتة "الأمل" والسؤال عن الأمل والرجاء، البحث عن الطموح، التنقيب عن الشغف والرغبة الجامحة في بناء المستقبل، كل تلك المعاني الكامنة في باطن المشهد كانت جليةً لكل من استطاع أن يقرأ المشهد بعين المُحلل والمُراقب، لا بعين المسؤول الساعي لإرضاء النَّاس وتخفيف الضغط الشعبي. لقد سعى هؤلاء الشباب إلى البحث عن الأمل والإمساك به، لا سيما وأننا في العام الأوَّل من تطبيق الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، بكل ما فيها من آمال وطموحات وتطلعات وطنية غير مسبوقة. خرج الشباب إلى الشارع باحثًا عن الأمل في الحياة الكريمة التي قرأها وسمع عنها في الرؤية المستقبلية، ربما لم يُدرك بصورة كافية أنَّ اكتمال الصورة ليس في أولى سنوات تطبيق الرؤية، وأن عقبات غير متوقعة ولم تكن في الحسبان فاقمت الأوضاع، فمن كان يتخيل أننا في القرن الحادي والعشرين سنُعاني من وباء يقتل الناس ويدمر الحياة الاقتصادية، ربما لو قرأنا عن ذلك في القرن العشرين لكان مقبولاً، أو في القرن التاسع عشر لكان متوقعاً ومستساغًا. الحقيقة والواقع- كما أراها- أن الظروف تكالبت على الأمل، الضغوط الحياتية غير المسبوقة حاصرت التطلعات، الأزمات الاقتصادية والصحية طعنت الرجاء في مقتل، رغم أنها لم تقضِ عليه، فما زال الأمل قائماً، وستظل التطلعات مشروعة، وسيبقى الرجاء ما بقيت السماوات والأرض!

الباحثون عن أمل- وليس الباحثون عن عمل- يأملون الالتحاق بسوق عمل ديناميكي مُتسارع الخطى يستوعب التغيرات السكانية والاقتصادية والطفرة التقنية، لكي ينمو ويزدهر ويُحقق لهم الآمال والطموحات.. سوق عمل قادر على استيعابهم برواتب تضمن لهم العيش الكريم، ليس بالضرورة أنها مرتفعة، لكن على الأقل توفر لهم الحد الأدنى من مقومات العيش. هؤلاء ينظرون إلى العالم من حولهم عبر نوافذ الإنترنت المشرعة ليل نهار، فيحلمون بوظيفة كتلك التي يرونها في دولة متقدمة، ولذلك هم آمنوا بشعار الرؤية المستقبلية "الانتقال بعُمان نحو مصاف الدول المتقدمة"، وهم مستعدون لبذل كل ما يُطلب منهم لأجل تحقيق هذه الرؤية وتطبيق هذا الشعار. 

إنِّهم يبحثون عن الأمل في استراتيجية واضحة للتشغيل الوطني، والنهوض ببرامج التدريب والتشغيل داخل العمل، فضلاً عن التوسع في التشغيل الذاتي ودعم المشاريع الريادية بقروض ذات فائدة منخفضة للغاية أو حتى بدون فائدة، فما الفائدة من مشروع ما زال يحبو في سنوات عمره الأولى؟! إنهم خرجوا بحثًا عن الأمل في التحول السريع نحو سوق عمل يرتكز في أساسه وقوته الدافعة على العمالة الوطنية الماهرة المعتمدة على التقانة والابتكار، عن طريق التدريب والتأهيل، فالجميع يُدرك أن الدراسة الأكاديمية لا تكفي لكي يعمل الخريج مُباشرة، ولكنه يحتاج إلى التدريب المتخصص، والتأهيل القائم على إكساب الخبرات وتشربها من أصحاب الكفاءات والخبرات، لا يعنيني هنا الحديث عن الإحلال- وإن كان مطلبًا مُهمًا- بقدر ما يهمني التأكيد على أهمية التدريب قبل التشغيل، فالتشغيل لمجرد التشغيل وامتصاص غضب البعض، لن يحل الأزمة، بل يرجئها لأعوام مُقبلة، ومن ثم تعود أكثر شراسة وأشد حدة!!

الباحثون عن أمل، ينقبون في آبار القطاع الخاص عن وظيفة يستطيعون من خلالها زيادة الإنتاجية، وأن يكافئ المجتهد منهم، وأن يُحفَّز المتباطئ منهم، لكي يصل لمرتبة المجتهد، فهم يؤمنون أنه ليس هناك إنسان عاجز عن العمل، بل هناك عقول عاجزة عن التفكير، عاجزة عن الإبداع، عاجزة عن الاستفادة من الموارد البشرية، حتى ولو كانت بحاجة إلى التدريب، فهي ليست بحاجة إلى معجزة، قدر احتياجها إلى الإنجاز.

ولهذا آن الأوان أن يكون للقطاع الخاص الدور الأول والأساسي في توفير الوظائف، لا ينبغي التحجج بمسألة ثقافة العمل والإنتاجية، أو بالظروف الاجتماعية، فالمناخ مواتٍ لكي يَصدُق القطاع الخاص في أفعاله قبل أقواله، أن يطرح مبادرات تشغيل تعتمد على الاستفادة من طموح المواطن، وآمال الحكومة من هذا القطاع، لكن في المقابل أيضًا أن تلبي الحكومة متطلبات هذا القطاع، وأن تستجيب لصرخاته التي يُطلقها منذ سنوات، صرخة لتبسيط الإجراءات وتيسيرها والقضاء على البيروقراطية التي تكلف القطاع الخاص الآلاف من الريالات يومياً وشهرياً.. صرخة من أجل تسهيل التمويل وخفض سعر الفائدة على القروض، لاسيما القروض المطلوبة لزيادة الإنتاج.. ألم نتعلم من أزمة كورونا؟ ألم نُدرك مدى أهمية أن "تأكل من عمل يديك"؟ أليس بالإمكان التوسع في الصناعات الوطنية وتقليل الاعتماد على الاستيراد، حفاظًا على العملة وتعزيزا للاقتصاد؟ إلخ...

هؤلاء الشباب كانوا يودون أن يختتموا رحلة البحث الطويل بالوقوف والتعبير عن دواخلهم وبطريقة هادئة ورصينة، بحثًا عن تحقيق التوازن في معادلة العرض والطلب على الفرص الوظيفية، واستثمار التركيبة السكانية المتنوعة في بلادنا والارتقاء بالنظم التعليمية لدينا. إنهم يبحثون عن الأمل في بناء شراكة وطنية حقيقية جادة تلبي طموحاتهم؛ إذ إنَّ خلق فرص عمل للمواطنين ليس مسؤولية الحكومة وحدها- أو حتى وزارة العمل فقط- وإنما هي مسؤولية مشتركة أساسها تكاتف الجهود، بحيث تتولى فيها مؤسسات المجتمع المدني والجهات الحكومية والخاصة المسؤولية الأولى وتلعب الدور الأكبر.

علينا أن نُغير نظرتنا وتفكيرنا تجاه ما حدث لننظر إليه على أنه لم يتجاوز حدود التعبيرات العفوية عن "الأمل الكبير" الذي ينتظره أبناء الوطن، من خلال رؤية مستقبلية تتضمن توجهات إستراتيجية وبرامج ومبادرات كفيلة بتغيير شكل الحياة بالكامل على أرض وطننا الغالي.

ويبقى الأمل- كذلك- مشروعًا في أن تتغير النظرة تجاه القوى العاملة الوطنية؛ إذ ينبغي النظر إليها على أنها وقود التنمية، والمحرك الأول للنمو الاقتصادي، فالمورد البشري- والوطني على وجه التحديد- هو الذي يتولى دفة القيادة في كل المؤسسات، ولا ينبغي غير ذلك، ولن نصل إلى مصاف الدول المتقدمة سوى من خلال هذه النظرة.. نعم نقدر ونحترم الاستثمار الأجنبي ورغبته في توظيف عمالة وافدة، لكن إذا كانت الوظيفة والتخصص يُمكن للمواطن أن يؤديها بكفاءة وإتقان فلا مجال هنا لاستقدام عمالة أجنبية، بل إنه من وجهة نظر اقتصادية واستثمارية توظيف "ابن البلد".

الأيام الماضية برهنت على ما كنَّا نؤكد عليه دائمًا وسنظل، وهو أن جلالة السلطان المُعظم- حفظه الله- يعمل ليل نهار من أجل راحة المواطن وسعادته، ولا أفشي سرًا حين أقول إنَّ جلالته يعمل بدأب وفي صمت ودون صخب إعلامي، لإنجاز مختلف التفاصيل في كل الخُطط الحكومية، فالجهود تتواصل بلا توقف، من أجل التحول بعُمان من دولة مقترضة لسد العجز وتلبية الاحتياجات، إلى دولة قادرة على النهوض ذاتيًا، وبمواردها التي لا تنضب، وذلك يُفترض إتمامه في غضون السنوات الأربع من خطة "التوازن المالي"، فهل يصعب عليها تحمُّل 4 سنوات من الصبر و"شد الأحزمة" والترشيد؟ ألسنا قادرين على تقبُل الظروف والتكيُف مع المُتغيرات ومن ثم نجني الثمار؟

إن سريان الخطط الموضوعة للخروج من براثن الأزمة والتخلص من أعباء القروض وردم فجوة العجز المالي، يتطلب منِّا جميعًا الصبر، ولقد ضرب العماني على مر الأزمان والعصور أورع الأمثلة في الصبر، فـ"صبرٌ جميلٌ" خير من استعجال مكروه، وعلينا أن نُكافح بجد واجتهاد لبلوغ الأمل الذي عبر عنه شبابنا في التجمعات الأخيرة، وأن يكونوا هم أيضًا عونًا وسندًا للوصول إلى الطموحات وتحقيق التطلعات المشروعة والنبيلة، ولأنَّ المواطن هو الوطن، فكلنا يجب أن نكون في خدمة الوطن، وكُلي ثقة بأنَّ عُمان ستصل إلى مُبتغاها ومكانتها المُتقدمة بحكمة قائدها الفذ وبسواعد أبنائها الأبرار؛ فالأمل لن ينقطع أبدًا.