"علوم الشرع والعلوم الاجتماعية" قراءة في قضايا "تجاوز القطيعة" من منظور سوسيولوجي أنثربولوجي

إعداد: نزهة علالي **

نزهة علالي.jpeg
 

بتاريخ 3 مايو 2021 الموافق 20 رمضان 1442 على الساعة التاسعة والنصف ليلا بالتوقيت الرسمي المغربي، استضاف فضاء الوساطة في لقائه الثالث ضمن صالونه الأكاديمي الرمضاني بالغرفة الافتراضية على تطبيق " زوم " الأستاذ الباحث ساري حنفي، أستاذ بالجامعة الأمريكية ببيروت، ورئيس الجمعية الدولية للسوسيولوجيا، من أجل تقديم كتابه "علوم الشرع والعلوم الاجتماعية : نحو تجاوز القطيعة - أليس الصبح بقريب؟ "، والصادر عن "مركز نهوض للدراسات والبحوث". ويقع الكتاب في 800 صفحة من القطع المتوسط.  وقد شارك في هذه الجلسة مجموعة من الأساتذة الباحثين والأكاديميين والطلبة المهتمين من مختلف ربوع العالم العربي كسلطنة عمان ولبنان والمغرب على الخصوص.

ساري حنفي.jpg
ساري حنفي مؤلف الكتاب

ويعد الكتاب نتاج خمس سنوات من الأبحاث الميدانية بين عامي 2015 و2020، انصبت أهمها على المغرب. وذلك عبر دراسة مناهج بعض كليات الشريعة في العالمين العربي والإسلامي، كان من بينها : لبنان، سوريا، الأردن، الكويت، المغرب، الجزائر، قطر ... إلى جانب الجامعة العالمية في ماليزيا. وقد افترض الأستاذ ساري حنفي وجود قطيعة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، ومضى في كتابه بحثاً في أبعاد هذه القطيعة واشكال تجلياتها محاولا البحث عن إمكانيات التقارب وتجسير العلاقة بين هذه العلوم من خلال استقراء الممارسات المؤسسية والبيداغوجية، وكذلك مواقف الباحثين والممارسات القائمة بين المختصين من الجانبين.

وقد عرف اللقاء إلى جانب مشاركة مؤلف الكتاب الأستاذ ساري حنفي تقديم قراءتين متميزتين لكل من الأستاذة الباحثة هناء شريكي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة، والأستاذ الباحث جمال فزّة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. كما قام رئيس فضاء الوساطة الأستاذ الباحث عبد الفتاح الزين من المعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط بتنشيط اللقاء الذي استمر حوالي 3 ساعات؛ حيث عرف نقاشا عميقا وغنيا وممتعا بين المشاركين حول مضامين الكتاب اعتبره مدير الجلسة عبد الفتاح الزين تفكيرا فذا يذكرنا بحيوية نقاشات السبعينيات من القرن الماضي ...

وافتتح فعاليات الجلسة الأستاذ عبد الفتاح الزين مرحبا بالمدعوين والأساتذة المشاركين. كما قدم  الأستاذ ساري حنفي  باعتباره أول عضو عربي باللجنة التنفيدية للجمعية الدولية للسوسيولوجيا والتي أصبح اليوم رئيسها، مؤكدا على أنه من الداعمين للشبكة المغربية للسيوسيولوجيا التي ينتمي إليها جل الأساتذة من السوسيولوجيين المغاربة، والتي تحتضن الطلبة الباحثين والشباب والذي يتابع عدد منهم هذا اللقاء، مضيفا أنه بعد مناقشة كتابين في الجلستين السابقتين والتي اهتمت بهما كنماذج من مدرسة البحث المغربي في كل من مجالي السوسيولوجيا والأنثربولوجيا خاصة ما ارتبط بهذه المناسبة الرمضانية كطقس ديني له قدسيته من خلال التركيز على تكامل المحتديين (السوسيولوجيا والأنثربولوجيا) كوجهين أساسيين لمعرفة علمية عميقة بالواقع المجتمعي حول قضايا مختلفة، سنتناول اليوم من خلال المؤلَّف المشار إليه أعلاه قضايا الشرع  وعلاقتها بالعلوم الاجتماعية. في هذا الصدد، سنناقش كتاب الأستاذ ساري حنفي.  وهو كتاب حاول مؤلِّفه ان يقوم بعملية تجسير العلاقة ما بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية بغية الإجابة عن سؤال فرعي في العنوان ألا وهو "أليس الصبح بقريب؟". وهو تساؤل مشروع يروم البحث في إمكانية التواصل في إطار احترام خصوصيات كل نوع من المعرفة وإغناء المعرفة الإنسانية بصفة عامة. وأشار إلى أنه كتاب ضخم وتجربة مهمة يرتكز جزء كبير منها على التجربة المغربية. وأضاف الأستاذ عبد الفتاح الزين أن السؤال الأهم الذي سجله من خلال مطالعة الكتاب هو : كيف يمكن التفكير في سؤال العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية ؟ وهو نقاش عرفه العالم العربي عموما وخاصة في الفضاءات المشرقية والفضاءات المغربية وهو ما يشير إليه باختصار الأستاذ ساري حنفي بما يسميه "التفكير العلمي داخل الدين، والتفكير العلمي خارج الدين". وأضاف أيضا أن هناك مسألة التفكير المقارن بين حقلي العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية علما أن لكل حقل سياقه ومناهجه وأهدافه مع اختلاف وتمايز بين العلوم الشرعية التي تنطلق من الإيمان القبلي، والعلوم الاجتماعية التي لا تعترف إبستيمولوجيتها بقَبْلِيَّة مفاهيمية ... وكذلك القضية المركزية التي قام عليها الكتاب المرتبطة بمنهج الفصل والوصل بين هذين الصنفين من العلوم. وتذكرنا هذه المسألة بكتاب مهم لابن رشد تحت عنوان " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال". وقد عالج الباحث هذا الموضوع من خلال ثلاثة قضايا أساسية. يمكن تقديمها كالتالي :

أسلمة المعرفة وإعاقة التعددية

تعميم المنظور الإسلامي العقدي (الإيماني) مع ضعف في المنهج المقاصدي

التدريس القائم على المنهج العلمي مقابل المنحى الإسلامي (الديني)

وفي الأخير، أكد الأستاذ عبد الفتاح الزين على أن الغرض من هذا اللقاء ليس قراءة الكتاب ككل ولكن إعطاء انطباعات أولية تحفز الجمهور على قراءته في اشتباك معرفي، وتعميق النقا ش الذاتي حوله. ومن أجل ذلك تم استدعاء كل من الأستاذة هناء شريكي والأستاذ جمال فزّة لتقديم قراءة كل منهما للكتاب. بعد ذلك تناول الأستاذان الكلمة، وجاءت مداخلتهما كل منهما كالتالي :

مداخلة الأستاذة هناء شريكي

في بداية مداخلتها أكدت الأستاذة شريكي على أن الكتاب يتميز بنوع من الجدة على مستوى الطرح وكذلك على مستوى الإشكال والمنهجية. وبخصوص العنوان تساءلت : كيف يمكنها تناول مسألة القطيعة والاتصال بين حقلين يعتبرهما البعض بمثابة قطبين متنافرين؟ لكن في نفس الوقت، أشارت إلى أن جرأة طرح الأستاذ ساري حنفي أظهرت لها على أنه رهان يطرح نفسه اليوم ليس فقط على الباحث المتفرد أو المنفرد بل وأيضا داخل حقول متعددة من بينها العلوم الاجتماعية. كما أشارت إلى أنه من الصعب أن نتحدث في عصرنا الحالي، وفي سياقات إنتاج المعرفة الآن عن قطائع بين العلوم أو عن حدود فاصلة بينها لأن الامتدادات والجسور هي أمر مشروع بين مشارب المعرفة المختلفة. وأضافت كذلك بأنه قد تبينت لها مشروعية طرح هذا السؤال أو هذه الفرضية التي انطلقت منها انطلاقا من الإشكال المركزي الذي بنى عليه الأستاذ ساري حنفي هذا العمل الضخم، والذي يروم مساءلة إمكانية التفكير في العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية وتجسيرها. كما أكدت أن صاحب هذا المشروع لم يبحث بأي شكل من الأشكال مسألة الربط بين الحقلين أو الفصل بينهما من خلال شكل القطيعة. وما يؤكد ذلك هو بناؤه لفرضية بحثه.  وتساءلت بعد ذلك إذا كان الأستاذ ساري حنفي يبحث عن علاقة بينهما فكيف يمكن أن تبنى علاقة بين حقلين متنافرين؟ وأضافت أن سؤال العلاقة هو متضمن لسؤالين على الأقل  : سؤال مرتكز على مسألة القطيعة من جهة، ومن جهة  أخرى  البحث عن آليات الاتصال ومد الجسور من طرف الباحث. وخلصت إلى أنه لا يمكن المقارنة بين العلوم الشرعية الإسلامية كحقل يبنى على حدود دنيا للتأويل وعلى بعد معياري هو النص وبين العلوم الاجتماعية خصوصا السوسيولوجيا (والأنثربولوجيا كرديف لها) باعتبارها حقلا يستدعي الفهم في أفق التأويل وينبني على المساءلة والدحض والتفنيد ثم التأكد.

ولاحظت الأستاذة هناء شريكي خلال قراءتها للكتاب أن المؤلف تجاوز مجموعة من الطروحات والتوجهات التي نادت بأسلمة المعرفة، وأن من بين المداخل الأساسية التي ركز عليها من أجل بسط إشكاليته هو طبيعة الممارسة العلمية التي يعمل من خلالها منتج المعرفة الدينية الإسلامية كما أقام مقارنة واضحة بين نموذج التعليم التقليدي المتمثل في المسجد وتعليم ديني آخر المتمثل في الجامعات التقليدية.

كما اعتبرت أن العمل تم القيام به من أجل تشخيص مكامن القطيعة عكس ما يوحي عنوان الكتاب خصوصا في عنوانه الفرعي الذي استقاه الأستاذ ساري حنفي من كتاب لمحمد الطاهر بن عاشور " أليس الصبح بقريب؟"  حول التعليم العربي الإسلامي. وهو كتاب يهدف إلى توصيف مجموعة من نماذج التعليم الديني ومحاولة تحديثها وإصلاح مناهجها مشيرة إلى أن دواعي الإصلاح ودواعي تحديث منهج التعليم الديني منهجا ومضمونا كان منطلق تفكير ساري حنفي.

بعد ذلك قامت بقراءة مضامين الكتاب من خلال الحالة المغربية (الباب الثالث من الكتاب وتحديدا في الفصل الثامن والحادي عشر) واعتبرت أنه من الصعب الحسم في دراسة الحقل الديني في المغرب تغييرا أو فهما أو تأويلا إلا من خلال ربط الحقل الديني بالحقل السياسي تحديدا بإمارة المؤمنين، وكيف يستعمل المكون الديني إمارة المؤمنين ليصبح ورقة رابحة داخل اللعبة السياسية من جهة، ومن جهة ثانية أنه لا ينفصل عن الحقل السياسي في المغرب وفي تداخل الحقل الديني مع الدولة الحديثة من خلال دساتيرها وأنظمتها الجديدة.  وبينت هذا التداخل بين الديني والسياسي على مختلف المستويات. واكتفت ببسط أمثلة عن ذلك فيما يلي :

المستوى الأول : علاقة الحقل الديني وفاعليه بالحقل السياسي. وهي علاقة يطبعها شيء من الخصوصية في المجتمع المغربي وخاصة علاقة المخزن بالدين بل أكثر من ذلك بالسلطة الدينية عندما يتحول الدين إلى سلطة بالمعنى الليبيري للكلمة. وهذا يرتكز أساسا على القوة والسلطة التي يستمدها من فاعليه، ولعل الفاعل السياسي في هذه اللعبة هو اتصال إمارة المؤمنين وتوثيق مشروعيتها انطلاقا من النسب الشريف، ثم امتداد هذه المؤسسة في علاقتها بالشرعية وفي علاقتها بالسلطة الدنيوية أي من خلال الملكية والدولة الحديثة.  وبالتالي، فالمكون السياسي في علاقته بالمكون الديني يسفرا عن حقل مركب ومعقد يحكم المجتمع المغربي. وهذا الأمر لا يقتصر على مستويات تركيبية للمجتمع المغربي فحسب بل يطال آليات اشتغال واستدعاء هذه الآليات لفاعلين مختلفين من أجل تحديد طبيعة الحقل الديني بالمغرب. وهذا ما جعل الأستاذ ساري حنفي يصل إلى خلاصة مهمة وهي الاعتدال الذي يعرفه الدين في المجتمع المغربي سواء في الخطاب الرسمي أو في الخطاب المنتج حتى من طرف حزب العدالة والتنمية الذي يترأس الحكومة الحالية في وليتين متتاليتين.

المستوى الثاني : مسألة المضامين والمناهج في تدريس علوم الشريعة ومدى حضور أو غياب العلوم الاجتماعية داخل هذه المضامين ... وكيف ينتج العلم والمعرفة في مجتمع يعرف هذا التداخل بين حقلين؟ وهذا التداخل يتم في علاقة جدلية بين الدين والسياسة، وإذا انضاف مكون العلم على المكونين السابقين يفترض أنه سيساهم بشكل من الأشكال في تشكيل هذه المضامين ومناهجها. وأشارت إلى أن المؤلِّف قد أورد في كتابه أن هناك محاولة الفاعل الديني الرسمي امتلاك آليات الضبط والتحكم،  وأن مقاومة الفاعلين له ستجد آثارها في قضايا ومجالات التعليم الجامعي من خلال برامج الشريعة والدراسات الإسلامية، ولكن الأمر لا يقتصر فقط على الفاعل الديني في علاقته بالفاعلين الآخرين إذ أن تجارب مختلفة من تاريخ المغرب المعاصر أعادت للواجهة علاقة الدين بالدولة والعلم ومن أبرزها تجربة الثقافة الأمازيغية في المغرب؛ حيث دعمت  بعض الحركات الإسلامية إلى جانب الأحزاب السياسية بما في ذلك اليسار تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ودسترة  الأمازيغية بتدريسها  زيادة على تجربة تعميم تدريس الفلسفة وفتح شعب السوسيولوجيا في مختلف كليات الآداب والعلوم الإنسانية.

وأضافت أنه لا يمكن حصر هذه العلاقة دائما في منحاها الإيجابي إذ أن المنحى السلبي لتجربة علاقة الدين بالسياسة وبالعلم كان ضد العلم في بعض الأحيان، وتمثل في الإقصاء الذي مس تخصصات مختلفة كالسوسيولوجيا، وعلم النفس، والفلسفة.

المستوى الثالث : ويتعلق بالأطروحات والأبحاث الجامعية المنجزة،  وماذا تعاطيها مع بعض القضايا ذات الاتصال بالبعد السياسي والاجتماعي رغم أن الباحثين الذين قدموها ينتمون الى أقسام ومعاهد ومدارس مختلفة للعلوم الشرعية أو الإسلامية.

وفي هذا الصدد أكدت الأستاذة أن الإنتاج العلمي والأكاديمي لا ينفصل عن الخطاطه السابقة. صحيح أنه يعكس بشكل من الأشكال رهانات بحثية ومعرفية جديدة إلا أن هذه الأخيرة بدورها لا تنفصل عن آليات ومكانيزمات الضبط والمراقبة، زد على ذلك أن مضامين إصلاح التعليم الجامعي بالمغرب والذي يتوخى تحسين وتوجيه الطلبة وخلق مسارات وجسور بين المسالك بما فيها الدراسات الإسلامية وعلوم الشريعة والعلوم الاجتماعية يخضع دائما الى إنتاج خطاب معتدل وباحثين يتبنون هذا الاعتدال والوسطية، وذلك لخدمة المكون السياسي في علاقته بالتوليف بين الديني والعلمي خدمة للمعرفي. علاوة على ذلك، أن انفتاح الجامعة على متطلبات سوق الشغل أمر يستدعي من بعض التخصصات والعلوم الشرعية إدراج بعض الوحدات التي تعتبر بمثابة وحدات تفتح، والتي تمكن الطالب من القدرة على التحليل والتركيب والنقد وهذا أمر سيسهل الولوج إلى بعض المهن.

وأنهت الباحثة مداخلتها بخلاصة مفادها أن إدماج بعض المواد المتعلقة بعلم النفس أو السوسيولوجيا أو الأنثربولوجيا أو غيرها من المواد ليس مقصودا باعتباره بناء أو هندسة بيداغوجية تروم خلق الجسور أو الاتصال بين حقلين بقدر ما هي معادله ذات حسابات دقيقه تعمل على خلق توازن داخل المؤسسات التعليمية والجامعية بتخصصاتها المختلفة من أجل المحافظة على معادلة السياسي الديني وإنتاج المعرفة.

مداخلة الأستاذ جمال فزّة

اختار الأستاذ جمال فزّة أن يقدم قراءة نقدية للكتاب، وذلك من خلال طرح عناصر نقد للأطروحة في شموليتها بدءا من العنوان محاولا أن يستشف منه بعض العناصر والرهانات التي تحكمت في الكتابة وخصوصا العنوان الفرعي الذي جاء على شكل سؤال "أليس الصبح بقريب؟" والذي ينطوي على الكثير من العناصر التي تمكن من فهم السياق وفهم الرهان. وقد ركز الأستاذ جمال على مستويين:

المستوى الأول :  أوضح فيه أن عبارة "أليس الصبح بقريب؟" إنما هي عبارة تتجاوز في الحقيقة فكرة التفاؤل بالصبح. وهي عبارة وردت في آية من آيات" سورة هود" في القرءان الكريم. وقد قيلت في استبطاء لوط عقاب الملائكة لقومه عندما سرت به وأهله ليلا. بمعنى هو جواب على الاستعجال، وهذا الاستعجال هو وارد عند محمد الطاهر بن عاشور، وهو وارد في سياق التحليل وبروز الأطروحات الجهادية التي تستعجل الرد على المحتل.  فكان رد بن عاشور أن أشار بمنظاره إلى أساس استراتيجي في الإصلاح والتجديد والنهضة وهو التعليم. كذلك تحكمت هذه المسألة في استراتيجية معالجة إشكالية الأستاذ ساري حنفي الذي كان سياقه يشبه بنيويا السياق الذي فكر فيه محمد الطاهر بن عاشور وهو سياق الانتفاضات العربية. وأمام هذا الشعور، وجه ساري حنفي منظاره إلى تعليم علوم الشرع ليطلب نوعا من التريث وأن تبدأ الأمور من حيث يجب أن تبدأ.

كما أضاف الأستاذ أن هناك تفاؤل في عبارة "أليس الصبح بقريب؟". غير أن هذا التفاؤل الاستراتيجي مرتفع أو مصاحب لأمل استراتيجي مدعوم بفكرة التريث التي تفيد بأنه لا يجب أن نستعجل التغيير الذي يمكن أن يكون خاطفا وسريعا؛ إذ أنه تغيير غير مستديم. واستدامة التغيير يجب أن نبدأها من حيث يجب بالتركيز على معالجة القضايا الاستراتيجية والأساسية. وهنا يظهر التعليم كأحد هذه القضايا الاستراتيجية، وإن لم نقل إنه العنصر الاستراتيجي بامتياز.

المستوى الثاني : تنطوي عبارة "أليس الصبح بقريب؟" على محاولة تجاوز فكرة المؤامرة الخارجية. وهذا التعارض الحاد الذي طبع العلاقة بين الإسلاميين واليساريين في أحداث الربيع العربي هو الذي كان سببا مباشرا حزّ في نفس الدكتور ساري حنفي، ودفعه إلى الكتابة خصوصا حين تحولت العلاقة في مصر إلى علاقة دموية.

ومن جانب آخر، أكد الأستاذ فزّة أن سياق الانتفاضات العربية وازته كثير من الأسئلة المتعلقة بالدين الإسلامي منها، على سبيل المثال : هل الإسلام قادر على التكيف مع الديمقراطية؟ مشيرا إلى أن هذا سؤال طرحه الغرب حتى قبل الانتفاضات العربية. ورافق هذه الأحداث توجس من الدين. وأشار إلى أن الكتاب مُطمئن بدرجة كبيرة خصوصا في الفصول الأول والثاني والأخير على مستوى هذا السؤال؛ إذ يوجه رسالة يخالها البعض أنها موجهة للعلوم الشرعية في حين أنها موجهة للعلوم الاجتماعية.

وقد لاحظ الأستاذ أن صاحب الكتاب اعتمد استراتيجية ركز فيها بداية على الإمساك بمعادلة القطيعة من شقها الأول والمتعلقة بإصلاح علوم الشرع وتأجيل الحد الثاني وهو نقد وإصلاح العلوم الاجتماعية، وربطها بالفلسفة الأخلاقية التي سيعالجها في كتاب ثانٍ وعدنا به ساري حنفي.  وأضاف الأستاذ جمال فزّة أنه لا يتفق مع هذا التقسيم لأن العنوان بطبيعته عنوان جدلي لا يمكن معالجته إلا في حوار بين حدّي المعادلة، وإذا فصلناهما سنضر بالموضوع.

ويضيف الأستاذ القارئ أننا نحن المغاربة عندما نقرأ هذا الكتاب يسرنا حال المغاربة فهو أفضل من أحوال إخواننا في المشرق باعتبار أن ساري حنفي يقدم المغرب على أنه رائد خصوصا في تجربة دار الحديث الحسنية التي تتميز بالمقاربة المقاصدية بشكل واضح، كما يشير إلى كثير من الميزات التي تميز كليات الشريعة والدراسات الإسلامية في المغرب. وبهذا يضع المغرب في مقدمة هذا التغيير نحو العلمنة.

وقد أبرز الأستاذ فزة أن ما أعجبه في الكتاب هو أن صاحبه لم يكن فيه سوسيولوجيا من البداية إلى النهاية بل كان في بعض الأحيان مؤرخا، وأحيانا أخرى فيلسوفا أو مفكرا اجتماعيا يقدم أفكارا في الفكر الاجتماعي، وفي بعض الأحيان يصبح حتى مُعلِّقا على بعض الأشياء بشكل موسوعي معتمدا على بعض الموسوعات المعروفة إلا أنه كان سوسيولوجيا في الفصلين الثاني والأول؛ حيث كان أكثر إبرازا لحرفة السوسيولوجي. وقد صرّح بأن العالم العربي والعالم الإسلامي يتجه بخطوات مختلفة نحو العلمنة، وأن حضور الدين في الفضاء العمومي لم يشكل حاجزا، ولم يربك هذا التوجه بل بالعكس ساعد عليه وهذا تؤكده المعطيات والأرقام.

 ويضيف أيضا أن المفاجأة هي أن هذا التوجس من حضور الإسلام في الفضاء العمومي كان موجها بالتحديد إلى الحركات الإسلامية الجديدة، وهو يشمل حركات ما بعد الإسلام السياسي. وهذا التوجس يثبت ساري حنفي أنه مغالٍ حتى ولو كانت له مبرراته؛ لأن الانتباه إلى الواقع يثبت بأن حركات ما بعد الإسلام السياسي هي حركات منعت أعضاءها والمنتمين إليها من التطرف بينما الإسلام التقليدي في سوريا لم يمنع مريديه من الانخراط في حرب العصابات. وهذا يجعلنا نراجع حساباتنا.

كما أكد على أن الحقل الديني في عدد من البلدان - وخاصة المغرب مقارنة بالدول العربية في المشرق - نجح إلى حد ما في تأسيس التسوية بين طرفيه الأساسيان.  وأن عددا من الحركات الإسلامية الجديدة التي تتبنى مدنية الدولة والبعد الأخلاقي للدين، وتقوم على فصل الدعوي عن السياسي، ولا تطرح في أجندتها الدولة الدينية؛ تؤكد على حضور الدين في الفضاء العمومي. هذه الملامح الأساسية للدولة المدنية أو ما أطلق عليه ساري حنفي بالعلمانية الجزئية أو العلمانية الأخلاقية أو الإنسانية - وكل هذه أسماء وضعها ساري حنفي لهذا النموذج، نموذج الإقرار بالدولة المدنية من طرف بعض الحركات الدينية الجديدة وحركات الإسلام ما بعد السياسي - في نظره هي تسوية بين هذا الطرف، ذلك أن الدولة تنتمي إلى حقبة تاريخية وهي حقبة ما بعد العلمانية.

وأضاف أن ما بعد العلمانية هو تجاوز للعلمانية، ولكنه يعني كما يقول ساري حنفي علمانية "هنية"، أي أن الحديث في العلمانية أصبح مستساغا وأصبح أمرا مقبولا قد يثير الكثير من الحزازات ولكن لا يثير مشكلات كبرى في طرحه. وما يحصل اليوم في نموذج تعليم علوم الشرع في الوطن العربي - وهذا جميل جدا في مقاربة ساري حنفي - يقف على قاعدة تسوية سياسية اجتماعية للحقل الديني، وبدونها لا يمكن أن ينجح التجديد في تدريس العلوم الشرعية. فالقاعدة سياسية اجتماعية، وهي خلفية لهذا التطور الحاصل في تدريس العلوم الشرعية. إن هذه فرضية مهمة ومفيدة جدا لتجديد المصالحة، وهذا هو السند السياسي والاجتماعي لهذا التوجه الذي ينتمي إليه ويتبناه.

لكن ما يعيبه الأستاذ جمال فزّة بالرغم من أنه يحبذ أفكار ساري حنفي خاصة وأنه من الناس الذين يفكرون في إيجاد أرضية ما للحوار - أرضية لتبادل الآراء بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية وكذلك الفلسفة، ويفكر في توسيع دائرة أو خلق مساحة أوسع للحوار وتبادل وجهات النظر، هو استخفافه إن صح التعبير بأطروحة القطيعة وإعراضه عن الصعوبات؛ حيث يقول في الفصل الختامي أنه سوف لن يثير الصعوبات وسوف يفكر في الموضوع بتثمين التجارب الناجحة ...  في حين يرى الأستاذ فزة أن الأطروحات المعرفية لا تتقدم بمحاولة إبعاد نقائضها. واعتبر أن الأستاذ ساري حنفي كان مسكونا بطموح الوصل دون أن يطرح أطروحة الفصل بالجدية المطلوبة بل إنه في كثير من الأحيان كان يصف أطروحة القطيعة بالإيديولوجيا والسياسة. وفي بعض الأحيان اعتبرها من الأوهام التي تعتمد عليها بعض المقاربات التي تخالف فكرة الوصل. وعندما يتحدث عن القطيعة يتحدث بالعلمانية المناضلة، وأن هذه القطيعة هي في الأصل سياسية أكثر منها إبستيمولوجيا (= باعتبارها نقد المعرفة أو فلسفة العلم). وأن دعاتها متأثرين بموقف سياسي أكثر مما هو موقف إبستيمولوجي. ولكن إذا كان ساري حنفي قد ركز على هذا المعطى وتخطى الحجج الإبستيمولوجية التي يقدمها أنصار القطيعة ولم يقف عندها بجدية سوى لأن يحولها إلى تضميناتها السياسية، فهذا سوف ينفع أنصار القطيعة بالرد بالسياسة، ويقولون إن الوصل أو الدعوة الى تجسير علوم الشرع والعلوم الاجتماعية تحركه هواجس سياسية.

واعتبر أن علوم الشرع ليست علوما إنسانية لأن علوم الشرع في بنائها للموضوع وفي اختيارها لمناهجها وفي مصادراتها الكبرى تختلف عن المصادرات والطريقة التي يبنى بها الموضوع في مناهج العلوم الإنسانية. وربما كان هذا الفصل مدعاة لتطوير نسقية العلوم الاجتماعية ولولا ذلك القطع لظلت المفاهيم مفتوحة على التأويلات الغير المحكمة، وتداخل معانيها كما يحدث عندما نريد أن نوسع دوائر العلم عموما. لكن مع ذلك، فهو عندما يدعو إلى دائرة أشمل تحضر فيها العلوم الاجتماعية بما هي كذلك، وتحضر فيها علوم الشرع إلى جانب الفلسفة أيضا، ويحضر فيها كذلك القانون ولكن ضمن دائرة ليست دائرة العلوم الإنسانية وإنما الإنسانيات Humanities، كما يرى ذلك الأستاذ فزّة ولأسباب تاريخية إبستيمولوجية، من بينها انحصار المشروع الوضعي في العلم.

 كما أضاف بأنه يطالب باستحضار مفهوم القطيعة بجدية ومناقشته بجدية ليس لأنه يطالب بحوار مهادن أو آداب الحوار وليس لأن مطلبه أخلاقي إبستيمولوجي، ولكن أيضا لأن النقد هو الأداة في الحوار والتي تسمح بنحت الكلمات وعدم إنتاج مفردات فضفاضة، مُغرِقة في عموميتها، ولا تفسر شيئا، وبالتالي فالحوار القائم على النقد يساعد على تطوير الأطروحة. فبدون أطروحة قوية ومتينة تقدم وجاهتها بمتانة لا يمكن أن نطور الوصل. وبدون نظرية في القطع متينة لا يمكن أن نستند عليها ونطور الوصل. ولتأكيد ذلك استحضر مثال الحمامة التي ذكرها كانط في كتابه "نقد العقل الخالص".

وأنهى مداخلته بالقول إن نقاشا جديا لأطروحة القطيعة الإبستيمولوجية قد يفيدنا في طلب توسيع حقول الإنسانيات عموما. ووجه رسالة الى أنصار القطيعة مفادها أن ما يجب أن نخشى عليه نحن المنتمون الى العلوم الإنسانية والاجتماعية ليس هو عدد تزايد المؤمنين أو تزايد عدد المتدينين بل هو أن يتحول جميع الناس إلى زبناء. فليس الحرص على صفاء حوزة العلوم الإنسانية والاجتماعية والدفاع عنها وحمايتها هو الذي يجعل تستمر بل العكس هو ما قد يقع.  واعتبر أن هذا المنطق هو الذي سيقتل العلوم الإنسانية والاجتماعية في هذا الزمن الراهن، في زمن فكرة تفتيت العلوم الاجتماعية وفكرة جعل العلوم الإنسانية تعالج قضايا جزئية وفرعية وتعرض عن الفكرة المركزية لهذه العلوم التي قامت عليها منذ التأسيس مضيفا أن العلوم الإنسانية والاجتماعية هي تفكُّرية في المجتمع في حد ذاته (تفكير في الواقع المجتمعي بما هو كذلك). وعندما نفككها فإننا ندفعها لخدمة الربح الاقتصادي والمنافسة الاقتصادية. والخروج من هذه المعضلة لا يمكن إلا بالانفتاح على التاريخ الكوني وعلى فضاء حوار مشترك بين العلوم ومنها علوم الشرع داخل مساحة أرحب وأشمل للحوار.

بعد هذين القراءتين، تناول الأستاذ عبد الفتاح الزين الكلمة محاولا تكثيفهما من خلال ملاحظتين اثنتين انطلاقا من قراءته للكتاب وخاصة في الصفحة 88 عندما تحدث الأستاذ ساري حنفي عن ماهية العلوم الاجتماعية مذكرا بالتجربة الخلدونية. وجاءت هاتان الملاحظتان كالتالي :

الملاحظة الأولى : هي أن ما يميز المدرسة المغربية في مجال العلوم الاجتماعية عموما والسوسيولوجيا على الخصوص هو أن ابن خلدون يعتبر - في أحسن الأحوال - من طرف السوسيولوجيين المغاربة ومن منتجي المعرفة السوسيولوجية من الممهدين لأنه ظل داخل دائرة التفكير الذي يمكن أن نقول أنه ظل منحصرا في حقل التاريخ ولكن ضمن الشرع  واعتماد مفاهيم تمتح من الدين.

الملاحظة الثانية : هو أن العنوان يذكرنا - كما أشار في البداية - بكتاب ابن رشد "فصل المقال ما بين الحكمة والاتصال ".   وأن الأطروحة بقيت حبيسة نقاش فكري. وهذا ما دافع عنه الأستاذ عبد الفتاح الزين جازما، خاصة وأن البعض ممن يعتد بموقف المعتزلة يرى الأستاذ أنه موقف معرفي غير منتج. وأن المنزلة بين المنزلتين "حياد عاقر"، ومعرفة لا تذهب بعيدا في هذا النقاش الذي يجب أن  يتأسس على اشتباك معرفي وتفكير نقدي كما هو في تعريف العلوم الاجتماعية وخصوصا  السوسيولوجيا  والأنثروبولوجيا باعتبارهما وجهان لعملة معرفية وعلمية واحدة. فهذا العلم ما كان ليكون لو لم يظهر ويبرز مفهوم المجتمع، ويُكتشَف على أنه مفهوم ليس مُعطى أو قبلي وسابق على الفكر بالمعنى " الكانطي" عندما تحدث كانط عن مقولتي المكان والزمان، ولكنه مفهوم يُبنى خلال التفكير، وبالتالي ما تحدث عنه ساري حنفي فيما ذكر عن ماهية العلوم الاجتماعية - وهذه معضلة في تمثلنا لهذه العلوم - هو أن المؤلف تحدث أساسا عن الخدمة الاجتماعية كموضوع لعلم تطبيقي اسمه "علم الاجتماع" كما تم استبدال الحديث عن الدين بالعلوم الشرعية لأن بداية إنتاج العلوم الشرعية ارتبط بالسياسة بل إنني أعتبرها فرعا من فروع "علم الاجتماع"، ذلك أنها علوم تطبيقية تحاول وضع هندسة للمجتمع وفق قياسات دينية.

وأضاف الأستاذ عبد الفتاح الزين أنه في اشتغال المؤلف على التدريس ربما لم يتطرق إلى مناولة الدين لأن كل واحد يتحدث عن الدين الذي قد يدعم سلطة ما. والإسلام هنا بما هو عقيدة دينية لا يحضر ولكن ما يحضر هو تأويلات للإسلام انطلاقا من مذاهب.

كما أشار إلى أن العلوم الاجتماعية هي علوم تتحدث اللغة العامة ولكنها تنحت مفاهيمها العلمية بما فيها مفهوم المجتمع ... وبما أن هذه المفاهيم هي أدوات إنتاج المعرفة، فإن جودة التحليل ستكون من طينة هذه المفاهيم العلمية ومن مدى أجرأتها وفق مناهج واعتمادا على تقنيات مضبوطة وملائمة ... وهو نفس الأمر بالنسبة للعلوم الشرعية التي هي فرع تطبيقي من العلوم الاجتماعية. وهكذا نلاحظ أن مناهجها مع اختلاف في المقاربات تقوم على كيفية إنزال الدين داخل المجتمع غير أنها تريد أن تقصي العلوم الاجتماعية الأخرى وبالخصوص السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. ولهذا فإن قضية التضارب بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية ليست تضاربا في إنتاج المعرفة ولكنه تضارب في نوعية وموقع ومكانة المعرفة، ونوعية التكامل في الجانب المتعلق بالخدمة الاجتماعية.  كما أشار إلى أن معضلة اليوم هو أننا لا زلنا نفكر وفق نمط عصر النهضة، ونرى السوسيولوجيا بمنطق طه حسين وتمثله لها عندما سمى السوسيولوجيا بعلم الاجتماع. في حين يرى الأستاذ الزين أنه ليس هناك علم اجتماع إنما هناك سوسيولوجيا أو علم المجتمع، وما يمكن أن نعتبره علم اجتماع فإنما هو خدمة اجتماعية أو سوسيولوجيا تطبيقية.

وفي الأخير أشار الأستاذ الزين إلى أن هذا الكتاب مهم وغني من حيث المعلومات ومن حيث المقاربات. ويمكن اعتباره بمثابة تلك الحجرة التي نرمي بها في بركة آسنة وراكدة. ولكن صاحبه كان يريد أن يقوم بالقبض على الجانب العقدي في المعرفتين لكنه بقي حبيس تمظهرات هذه الجوانب العقدية. وهنا ختم بطرح السؤال التالي : "ألا تعتقدون أن الارتكاز إلى الأطروحات السابقة  أو ما نسميه بالكلاسيكية  من معتزلة ودعاة الرشدية وعصر النهضة، أليس هذا يجعل الصبح غير قريب؟".

تعقيب الأستاذ ساري حنفي

بعد ذلك تناول الكلمة الأستاذ ساري حنفي. وعبّر في بداية مداخلته عن سروره بالثلاث قراءات العميقة للكتاب مؤكدا على أنه سيأخذ هذه الملاحظات بشكل جدي، وسيعيد قراءة الكتاب على ضوئها. وقبل أن يرد على موضوع الاستخفاف بأطروحة القطيعة الذي ذكره الأستاذ جمال فزّة في مداخلته، ذكَّر بالمنهج الإرشادي السوسيولوجي Sociological paradigm الذي يعتمد عليه لكي يوضح كيف يرى الواقع العربي وظاهرة معينة من قبيل علوم الشرع ومنهاجيته، كما أكد أنه ينتمي إلى :

أولا : مدرسة "مارسيل موس " Marcel Mauss وكارل بولاني Karl Polanyi اللذان يؤكدان على ترابط الفضاءات  الاجتماعية  والاقتصادية والسياسية ولكن أيضا الدينية .وبالتالي فهو يؤمن بالتمايزات بين هذه الفضاءات ، لكن دون فصل بينها.  ويرى أن الدنيوي والديني بشكل أساسي يؤثران على هذه الفضاءات من خلال الأخلاق سواء كانت فلسفة أخلاقية أو الدين.

ثانيا : أنه ينتمي إلى المدرسة التآلُفية (= مدرسة العِشرة) convivialist movement  لذلك فهو يرى أنه ليس هناك فقط تمايز بدل الفصل، ولكن هناك أيضا دور للعلوم الاجتماعية بالتذكير بالأساس الأنثروبولوجي للإنسان، وهو العطاء "الهدية"  أو "الهِبَة" don/ gift التي تؤسس للعلاقات الاجتماعية. بمعنى أن أعطي، وأن آخذ وأن اعطي مرة أخرى ... ولكن ليس بالمعنى الكمي والكيفي للعطاء الأول، وأيضا خارج النزعة التبادلية الفجة. لهذا فإنه يؤكد على أنه ليس هناك تماسك في عصر التعددية اليوم بدون الحوار. وهو لا يستهين بقدرة المجتمع في المجال العام بأن يصل إلى توافقات فكرية حتى لو كان أفراده مختلفين إيديولوجيا. وفي هذه النقطة فهو يتبع خطى الفيلسوف الأمريكي جون رولس (1921-2002) John Rawls.

المناقشة العامة

وفي إطار المناقشة العامة، فسح الأستاذ الزين المجال للحضور من أجل التدخل والتعليق على المداخلات وطرح الأسئلة. وقد ارتبطت أغلبها بإشكالية الفصل والوصل بين العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية.

 وهكذا افتتح الأستاذ جمال فزّة تساؤله بفكرة مفادها أنه لا تجب الاستهانة بالتوترات فيما يتعلق بموضوع الوصل بين علوم الشرع والعلوم الأخرى في السياق الذي طرحه الأستاذ ساري سواء ما تعلق بالعلوم الاجتماعية أو غيرها، لأنه من الممكن أن تصل كل هذه العلوم إلى قطيعة. وليس الوصل فقط هو النهاية وإنما هو غاية متجددة بتجدد شروط هذا الوصل. فالقطيعة تظل ثاوية ومرافقة للتطور المعرفي.  

وفي هذا السياق أشار الأستاذ ساري حنفي إلى أنه طور منذ كتب الكتاب ما أسماه منهج الوصل والفعل التعددي الذي سيكون خطابا الى كل المؤمنين، وهو مختلف عن خطاب المواطنة الموجه للجميع. وهو بذلك لا يستهين بالإشكالات التي ستكون ما بعد الوصل ولكن ليس هناك خيار غير الحوار.  وفي نظره، تظل مصر نموذجا براديغماتيا لما يحصل اليوم في العالم العربي. وأضاف أيضا أن هناك استثناء تونسيا ومغربيا وليس جزائريا. فبالنسبة له تشكل كل من المملكة المغربية والجمهورية التونسية استثناء عربيا، لأنهما يتوفران تاريخيا على فضاءات مدنية، وأن هناك ترابطا بين السياسي والديني والإنتاج المعرفي. فعندما نقارن المملكة المغربية بما يحصل بكل الجامعات العربية سنجد استثناء يتمثل في وجود الدراسات الإسلامية ضمن تخصصات أخرى بكليات الآداب والعلوم الإنسانية، مضيفا أنه في الفصل 13 من كتابه هذا انتقد الكثير من كليات الشريعة في العالم العربي بشكل قاسي جدا. كما أشار بعد ذلك إلى موضوع الردة وموضوع الحريات الفردية مؤكدا على أنه أهم موضوع في الليبرالية اليوم، كما أنه أهم موضوع يهز علاقة الدين بالمجتمع في هذا القرن. وبالتالي، فإن كل شيء نسبة وتناسب.

ورأى أنه عندما انتقد الشرع اعتبر أن هناك مشكلا لدى النخب المغربية. واستشهد بما لاحظه من رفض بعض الأساتذة المشاركة في مناقشة أطروحات الدكتوراه المحضّرة ضمن تخصصات الدراسات الإسلامية أو العكس. واستنتج أن هناك إشكال سياسي أكثر منه إبستيمولوجي، وهذا لا يعني أنه ليس هناك إشكال إبستيمولوجي. وهذا الاشكال برأيه هو من التاريخ الإسلامي ومن التجارب الكونية، مؤكدا أنه في كل أعماله السوسيولوجية يعتبر أن هناك شيئا كونيا أسسته الإنسانية، وبعد ذلك أتت بعض الخصوصية الثقافية التي يجب تناولها. وأعطى بعد ذلك بعض الأمثلة التي تشكل إشكالات إبستيمولوجية خطيرة مؤكدا أنه مهتم بالبدائل أيضا. وأن هذه البدائل لم يأت بها من جامعات غربية معروفة بل أتى بها من بلدان عربية إسلامية ومن نماذج محلية أصيلة.

وفي الأخير أكد الأستاذ ساري حنفي على أن ما يريد أن يقوله هو أن منهج الوصل هو منهج لا يمكن أن يكون بدون أخذ مقاصد الشريعة ووضع الأخلاق فوق الفقه. وبدون ذلك، فليس هناك وصل. وببساطة، وهذا الكلام موجه للطرفين، هناك مشكل لدى العلوم الاجتماعية والتي لابد أن نصلها بالفلسفة الأخلاقية. وهذا له علاقة كبيره بالمدرسة الحميمية التي ينتمي إليها في الحياة، مشيرا إلى أن هذه القضايا التي يطرحها رغم أن شكلها عربي إسلامي، فهي في الحقيقي إشكالات كونية كذلك.

وفي سياق جولة المناقشة هاته، تفاعل الأستاذ جمال فزّة مع ما أثاره الأستاذ ساري حنفي مشيرا إلى بعض النقط التي جاءت عموما كالتالي :

◄ اعتبار أن طرح مسألة جديّة القطيعة مع المدارس الموجودة في علوم الشرع لم يأت من العلوم الشرعية، وإنما جاء من العلوم الاجتماعية، هو طرح فيه نوع من "الاستخفاف" بين مزدوجتين. فماذا تطرح العلوم الاجتماعية من حجج ومن مسوغات تقول بالقطيعة؟ مع العلم أنه شخصيا يبحث عن دائرة للحوار فقط. وهو يرافع لفائدة القطيعة من أجل تطوير الوصل، ولديه طموح في توسيع دائرة الإنسانيات من أجل مد قنوات الحوار، ولكنه اعتبر أن هذه القنوات على مستوى السطح غير مقبولة، ويجب أن نمد قنوات تنطلق من نقض الأساس الذي يقوم عليه كل حقل وهو لا يتحدث عن علوم الشرع والعلوم الاجتماعية فقط ولكن حتى داخل العلوم الإنسانية برمتها.

◄ لا يمكن أن نتحدث اليوم عن عقل كوني. فعندما نؤمن بهذه التعددية من منطلق ما قاله الأستاذ ساري حنفي، ما هي إمكانات تيسير النقاش بين كل هذه الحقول؟ وما هي الأدوات التي تسمح بمد الحوار بين حقول مؤسسة إبستيمولوجيا؟ وكيف ندير نقاش نقدي إبستيمولوجي بين تأسيسات إبستيمولوجية معينة؟ هذه الإبستيمولوجية النقدية هي التي يمكن أن نضع فيها الدائرة الأوسع لخلق نقاش جدي وإبستيمولوجي لا يحيل فقط إلى تضمينات سياسية وتضمينات إيديولوجية.

◄ اعتبر أنه بدون الحرص على مد جسور الحوار الإبستيمولوجي بين التأسيسات المتعددة يمكن أن ننتج مفاهيم ومقولات فضفاضة، مشيرا إلى أنه لا يخشى الوصل إيديولوجيا ونظريا ولا يخشى أن نبني الوصل بتفاؤل مفرط ولكنه يريد نوع من التشكك في الوصل والتشكيك فيه والمضي قدما نحوه. وهذا ما أشار اليه في مثال الحمامة عندك "كانط".

 إلا أن الأستاذ ساري حنفي أشار إلى أنه لا يزعجه نهائيا النقاش الإبستيمولوجي النقدي، ولكن ما يزعجه هو عندما يقول أحدهم أن عنده مشكلة مع إبستيمولوجيا الغرب أو عنده مشكلة مع إبستيمولوجيا الشرع. كما رد على الأستاذ عبد الفتاح الزين فيما يخص موضوع الرشدية والمعتزلة مشيرا إلى أنه قريب إلى الرشدية في كيفية التعامل مع الفلسفة والدين ولأنهما في النهاية تصالحا، رغم أنه يقول في كتابه أنه يختلف مع ابن رشد في أنه ليس بالضرورة أن يتصالحا. وأن ما يريد أن يقوله هو أن أي مدرسة شرعية تقوم على مقاصد الشريعة مجبورة على الاشتغال بالسوسيولوجيا لأنها تختلف كثيرا عن المدرسة السلفية أو المدرسة التقليدية النصية.

وفي تعقيبه، أكد الأستاذ جمال فزّة على أنه متفق مع الأستاذ ساري حنفي حول خلق دائرة حوار ولكن الاختلاف هو في السؤال، كيف نجعل النخب تتحدث مع بعضها؟ وهذا سؤال يتحول بطريقه مفاجئة إلى سؤال تقاطع معرفي بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية. مضيفا أن سوسيولوجيا النخب هي حقل الجواب عن هذا السؤال، بينما حقل تقاطع علوم الشرع والعلوم الاجتماعية هذا سؤال آخر ينتمي إلى حقل الإبستيمولوجيا والميتودولوجيا. وأكد على ضرورة استنفاد المخزون التأويلي للكلمات داخل حقولها، وآنذاك سنعرف ماذا نفقد وماذا نربح عندما نغادر الحقل الذي تنتمي إليه.  وبدون هذه العملية سنقع في دلالات فضفاضة. وأعطى مثالا على ذلك الإيثيولوجيا كجزء من العلوم الإنسانية. وما هو المعنى الذي تفيده، مشيرا إلى أنها حديث في طبيعة الله وفي طبيعة الصفات الإلهية، وأنها خطاب عقلي وليس خطاب إيماني.

واستطرد ساري حنفي بأن الإيثيولوجيا هي ليست ما يقابل عندنا في الإسلام علم الكلام.  وأن أهم شيء اليوم بالنظريات الليبرالية السياسية هو البحث عن المعقول وليس عن العقلاني، لأن موضوع المشاعر يلعب دور المعين التاريخي موضحا أن %90 من المشاكل الأخلاقية تتجاوز المعقول.

 وفي تعقيبه أشار الأستاذ عبد الفتاح الزين أنه من خلال اطلاعه العام على ما يدرس في الدراسات الإسلامية، هو أن مسألة الوصل انطلاقا مما قاله الأستاذ ساري حنفي بأن العلوم الشرعية عمليا هي جزء من العلوم الاجتماعية، وهو ما أشار إليه في بداية الجلسة، لأنها تبحث في المقاصد، في حين يرى أن المقاصد لا تتأسس على المعقول في اشتغال عدد من مختصي الدراسات الإسلامية ومن يدور حولهم ولكنها تتأسس على النصوص التي يستنجدوا بها لدرء ما يعتقدونه مفسدة.

وفي الختام، أعطى الأستاذ جمال فزة بعض المعلومات حول تجربة الوصل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط والتي استعرضها في التجربتين التاليتين :

◄ مشروع ماستر متعدد التخصصات يشمل جميع التخصصات القائمة بهذه الكلية من اللغات الى الدراسات الإسلامية إلى جانب الفلسفة، وعلم النفس، والسوسيولوجيا   مرورا بالتاريخ ... وأعلن أن هذا المشروع سينطلق السنة الجامعية المقبلة (2021-2022). وأن المشرف الذي ينسق كل تلك المواد من شعبة الدراسات الإسلامية.

◄ حضوره شخصيا في لجنة مناقشة ثلاث أطروحات في مواضيع سوسيولوجية في الدراسات الإسلامية رغم أنه سوسيولوجي. كما أنه كان عضو مدرس في ماستر بالدراسات الإسلامية.

وأنهى كلمته بتساؤل جاء فيه : إذا كانت قطيعة إبستيمولوجية لا تفسر كل هذا العداء الموجود بين اليساريين والإسلاميين، فلماذا كل هذا الود الموجود في كلية الآداب والعلوم الإنسانية لم ينتج وصلا إبستيمولوجيا  حقيقيا؟

وفي الأخير، اختتم اللقاء الأستاذ عبد اللطيف كداي عميد كلية علوم التربية بالرباط بتنويه بهذه السلسلة الغنية من الجلسات شاكرا فضاء الوساطة الذي هو من بين مؤسسيه والذي اختاره أعضاء الفضاء رئيسا شرفيا. كما قام بتوجيه دعوة مفتوحة للأستاذ ساري حنفي لزيارة كلية علوم التربية لمواصلة هذا النقاش المفيد للطلبة والباحثين ويشكل انفتاحا على محيط الجامعة واستجابة للطلب الاجتماعي بصفة عامة. وهكذا تم رفع الجلسة.

** باحثة وعضو "فضاء الوساطة" بالمغرب

تعليق عبر الفيس بوك