معنى أن تكون إيجابيًا

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي

باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

 

الاختلاف والتَّعدد، سواء في الإنسان أو في الطبيعة، سمة من سمات الكون وآية من آيات الله، وكما أنَّ الناس مختلفون في ألوانهم وثقافتهم ولغاتهم فهم كذلك على الدوام مختلفون في دوافعهم ومواقفهم وفي آرائهم وردود أفعالهم حول ما يعنيهم أويدور حولهم. لذلك فلا غرابة أن تجد فريقاً من الناس رافضاً لكل شيء، ساخطاً على كل أحد، متبرماً من كل رأي، "لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب"، وأكثر هؤلاء يتصرفون فقط من باب "خالف تُعرف"، وليس عن التزام بمبادئ أو لتحقيق أهداف واضحة. ومع أنَّ هذا الصنف من الناس لا موقف له مفيد أو يُعتد به، إلا أنه يجب التنبه إلى ما قد يسببوه من أذى للمُجتمع. ومن المؤسف أنَّ هذا الفريق تمكن من استخدام وسائل التواصل الاجتماعى بحرية، لأنه من الصعب تقييدها، فأسهم بذلك مع عناصر أخرى في انتشار الغوغائية والفوضى والارتباك في بعض المجتمعات في فترات مُعينة. وبموازاة ذلك الفريق، هناك فريق آخر من الناس قانع بكل شيء، مستسلم لكل أمر، لا رأي مستقل له في أي موضوع، ينطبق عليه قول الشاعر، دريد بن الصُمّة، الذي ربما كان في حالة حزن ويأس، حين قال وهو يرثي أخاه:

وما أناْ إلا من غُزَيّةَ إنْ غَوتْ

غَوَيتُ وإنْ تَرْشُد غُزيّةُ أَرْشُدِ

قد يبدو للبعض أن هذين الفريقين على طرفي نقيض، كون أحدهما رافض لكل شيء والآخر قانع بكل شيء، لكن في الحقيقة والواقع أنهما وجهان لعملة واحدة هي السلبية، وبينهما عوامل مُشتركة، هي عدم الفاعلية، وعدم الرغبة في التغيير أو التجديد، والعجز عن تقديم بديل أفضل أوبذل جهد ذي معنى لتغيير ما بهم من أجل تغيير ما بمجتمعاتهم إلى حال أحسن.

ومع أنَّ المجتمعات لا تخلو من وجود فئة من أصحاب الرأي الذين يزِنون الأمور بميزان العقل والمنطق ويبادرون بالقول أوالفعل إلى ما يخدم الآخرين والصالح العام، لكن المؤسف أن المواقف "السلبية"، بوجهيها الرافض والمستسلم، هي التي تتصدر كثيراً من المشاهد والساحات في بعض الأحيان، وذلك كما يظهر بقوة فيما يتم تداوله عبر بعض وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي.

وتساوقاً مع تلك "السلبية"، سواء في صورتها الرافضة أو في صورتها المستسلمة، بدأ البعض ممن لا يؤمنون بالاختلاف والتنوع أو ممن "يحسبون كل صيحة عليهم"، في استخدام مصطلحات مثل "الإيجابية" و"الواقعية" ويتوسعون في تعريف معناها أو يحملونها على غير ما تحتمل، مستخدمين في ذلك عبارات وعناوين وشعارات من قبيل "كنْ إيجابياً" أو"كنْ واقعياً"، لتعني عندهم القبول بكل شيء والتصفيق لكل قول، غير مدركين أو متناسين أن كثرة التصفيق تشتت الانتباه وتحجب السمع. ويرى هؤلاء أنَّ النقد أوإبداء رأي مختلف حول أمر ما، هو تثبيط للهمم وهدم للجهود ونكران للجميل. لكن الحقيقة التي رسختها التجارب عبر الزمن هي أن "النقد"، ولا أقصد "الانتقاد"، أهم سمة من سمات الإيجابية والحيوية، ليس في الآدب والفنون فقط وإنما أيضاً في حياة المجتمعات والشعوب؛ حيث النقد بمعناه العلمي وتحليل الموضوع، وإبراز الجوانب الجمالية فيه، والتعريف بالجوانب السلبية ثم النظر إليها من زوايا مختلفة بهدف إيجاد بدائل إيجابية لها.

لذلك يلاحظ أن المواضيع الحيوية والأمور المهمة هي التي تحظى بنقاش وتحليل واسعين على مختلف المستويات والمحافل، أما المواضيع غير القابلة للنقد فهي المواضيع التافهة التي لا تجد من ينقدها أو يحللها بجد وموضوعية، وإن حصل نقاش حولها فإنه يكون مجرد مِراء لا يؤدي إلى نتيجة ولا يُوصل إلى حل. وبالإضافة إلى ذلك فإنّه لا يمكن قياس مدى نجاح أو فشل أي خطة أو سياسة إلا إذا أخضعت للنقد والنقاش والتحليل والتمحيص، سواءً كان ذلك النقد والنقاش على المستوى العام أو على مستوى النخب وأهل الرأي والمختصين. وهذا ما بدأت تفعله بعض المؤسسات والجهات، حيث تعرض ما تنوي اتخاذه من سياسات أو تفرضه من إجراءات على "الشركاء" أي المعنيين وأصحاب العلاقة، أو على الرأي العام لمعرفة تعليقاتهم ومواقفهم قبل إصدار تلك السياسات أو تنفيذها رسمياً.

إن المجتمعات تكتسب حيوية وقدرة على الإبداع واجتراح الحلول عندما يكون من بينها "نقاد اجتماعيون"، أي حين يوجد في المجتمع من أهل الرأي والحنكة والشجاعة من يقومون بالنقد البناء والتحليل الموضوعي لكل ما يهم المجتمع في حاضره ومستقبله، سواء كان ذلك في الجوانب الاقتصادية أو القانونية أو السياسية أو غيرها. الجدير بالذكر هنا أنَّ "النقد الاجتماعي" موضوع هام ويعود البحث فيه إلى عصور سابقة، حيث ناقشه مفكرون وفلاسفة كبار، منهم ابن خلدون وآخرون قبله وبعده، وهو يُعنى "بالكشف عن بعض  الظواهر والمفاسد التي توجد في المجتمع ويصعب علاجها"، ولكن المجال لا يتَّسع هنا للتوسع في البحث في هذا الموضوع.

خلاصة القول.. إنَّ الإيجابية هي المبادرة والقدرة على النقد الموضوعي لما يدور أو يطرأ من أحداث لها علاقة بالمُجتمع، أما التسليم أو القبول بكل شيء فهو السلبية بعينها، ولا يختلف المسلّم بكل شيء عن ذلك الذي ينتقد ويعترض على كل شيء. إن التقدم والتغير الاجتماعي نحو الأفضل يعتمد على مدى قدرة أفراد المُجتمع على النقد البناء وتقديم البدائل، وليس على الشطط أو على التسليم الكامل بالواقع، والمُجتمع الذي ليس به نقاد لقضاياه واهتماماته مُجتمع تنقصه المعرفة العلمية والشجاعة الأدبية والحنكة السياسية، لا يمكنه أن يتقدم أو يُغير من الحال الذي هو عليه إلى حال أفضل. وفي الحديث الشريف "لا يكن أحدكم إمّعة، يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن النَّاس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم"، قاعدة عامة يجب البناء عليها لتعزيز النقد الإيجابي في المجتمعات.

تعليق عبر الفيس بوك