القدس أمانة هذه الأمة

د. محمد بن عوض المشيخي **

يجاهد الشعب الفلسطيني بمختلف فئاته الاحتلال الصهيوني البغيض الذي تقف خلفه الدول الكبرى التي اختارت لهذا الكيان الغاصب قلب الوطن العربي (فلسطين)، هذه الأرض المقدسة التي تضم أحد المقدسات الإسلامية لأكثر من مليار مسلم في مختلف أنحاء العالم، إنه المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى الرسول عليه الصلاة والسلام ومعراجه، والتي سالت حوله دماء الشهداء الأبطال من الفلسطينين، لكن أرض الزيتون المُقدسة شهدت ملحمة جديدة من الرباط والجهاد والبطولات في معركة الدفاع عن المسجد الأقصى الذي دنسته أقدام الصهاينة في العشر الأواخر من رمضان الفائت.

لقد ردت غزة المحاصرة منذ عدة سنوات على جيش الاحتلال المُتغطرس بأسلحة لم تكن في الحسبان، فصواريخ القسام وسرايا القدس التي صنعتها المقاومة محلياً، دكت قلاع المحتلين في القدس الغربية وتل أبيب متجاوزة بذلك منظومة القبة الحديدية للدفاع الجوي، والتي كلفت إسرائيل مئات الملايين من الدولارات. لقد غيرت كتائب عز الدين القسام موازين القوى وكسرت تفوق "الجيش الذي لا يُقهر"؛ إذ أظهرت المشاهد التلفزيونية المنقولة من الثكنات حالة الهلع والخوف التي تُسيطر على هذا الجيش الذي تم تجميعه من أنحاء العالم؛ جراء رشقات الصواريخ التي تتساقط بلا انقطاع على مدن فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر.

لقد كتبتُ على صفحات جريدة "الرؤية" وصحيفة "العرب" القطرية مطلع شهر أكتوبر الماضي مقالاً بعنوان: "فلسطين قضية العرب الأولى"، ولم أكن أقصد في ذلك المقال بأفضلية العرب في قضية القدس وفلسطين؛ بل قصدنا من ذلك وقف وتيرة التطبيع المجاني للعرب مع هذا النظام العنصري الذي يحتقرنا، ويتمنى زوالنا من الوجود من المحيط إلى الخليج، لمجرد انتسابنا لهذا الجنس أو القومية العربية؛ فالدول الإسلامية الكبرى مثل: باكستان وماليزيا وإندونيسيا ونيجيريا، لا تسمح لنفسها بأيِّ حال من الأحوال بإقامة علاقات دبلوماسية من أي نوع مع إسرائيل؛ بل الحكومات الإسلامية في تلك الدول أكثر وفاءً ودفاعاً عن قضية فلسطين من بعض الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي.

 لقد آن الأوان أن تتحد الأمة في مواجهة هذا العدو، وتنبذ خلافاتها جانباً. وعندما نقول الأمة لا نستثني أحدًا من هذا الواجب وفي مقدمتهم علماؤنا الأجلاء الذين هم مرجعنا في شتى أمور الحياة. وفي هذا الصدد لابُد لنا من الإشادة بمواقف سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة، وهي مواقف ليست مستغربة على سماحته فقد كانت قضية فلسطين حاضرة معه طوال مسيرته الخيرة.

لا شك أن قضية فلسطين لها مكانة خاصة في قلوب العُمانيين عبر التاريخ، فهذا الشعب العريق يقف دائما ضد الظلم، فقد كنت أسألُ نفسي كثيرًا طوال سنوات تدريسي لمساقات ذات طبيعة سياسية وإعلامية في جامعة السلطان قابوس عن اهتمام هؤلاء الطلبة العُمانيين بقضية الأمة الأولى "القدس الشريف"، ومناقشة ذلك بإسهاب، على الرغم من صغر سنهم، وكذلك تراجع المد القومي العربي بعد العدوان العراقي على دولة الكويت الشقيقة، وتوقيع اتفاقيات أوسلو. لكنّ ذلك لم يمنع أبناء هذا الوطن العزيز من مساندة الشعب الفلسطيني المنكوب. ولعلنا نتذكر جميعاً انتفاض المجتمع العُماني من مسندم إلى ظفار، وخروجهم في مظاهرات للمطالبة بإغلاق المكتب التجاري الإسرائيلي في مسقط أعقاب استشهاد الطفل مُحمد الدرة على يد الصهاينة؛ فتلك الجريمة البشعة المتمثلة في استهداف هذا الطفل برصاص الغدر وهو يختبئ في حضن أبيه الأعزل أمام كاميرات البث التلفزيوني المباشر، هزت العالم من أقصاه إلى أقصاه، وفجرت موجة غضب واسعة النطاق في المدن العربية التي خرجت لمناصرة القضية الفلسطينية العادلة، وكشفت القناع عن حقيقة جيش الاحتلال ومجازره المتعددة في فلسطين.

إن دور الإعلام مهم للغاية في كشف جرائم الاحتلال للعالم الخارجي، فهو العين الثالثة التي تنقل الأحداث المأساوية في ربوع فلسطين الجريحة، وخاصة في أحياء القدس مثل حي الشيخ جراح وباب العمود والمسجد الأقصى، وكذلك في المدن الفلسطينية التي احتلت بعد عام 1948 مثل اللد وعكا ويافا وغيرها.

وهنا لا بُد من الإشادة بشبكة الجزيرة القطرية ممثلة في قنوات (الجزيرة الإنجليزية، وقناة الجزيرة العربية، والجزيرة مباشر) التي قدمت تغطية إعلامية احترافية ومتميزة بكل المقاييس، فالعالم اليوم من الشرق إلى الغرب يُتابع الجزيرة؛ بل أصبحت هذه الشبكة مصدرًا أساسيًا للأخبار التي يتم بثها عبر وسائل الإعلام العالمية عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فمنذ بداية اقتحام المسجد الأقصى ومداهمات سكان القدس من الفلسطينيين في حي الشيخ جراح قبل 12 يومًا، ونحن نتسمر على شاشة الجزيرة دون غيرها من القنوات من الصباح إلى المساء دون توقف، لمشاهدة ما يسطره المجاهدون في غزة، على الرغم من تقطع قلوبنا من مناظر أشلاء أطفال غزة ونسائها الذين يتعرضون للقصف اليومي من جيش الاحتلال الإسرائيلي. ومن اللافت أن عد من القنوات الرسمية التي تمولها الحكومات العربية تُحاول تجنب نقل انتصارات المجاهدين في غزة، وكذلك اختصار فضائح المشاهد الفظيعة التي يرتكبها جنود الاحتلال ضد المواطنين الفلسطينين في الأراضي المحتلة؛ وذلك لمحاولة تهدئة الرأي العام الذي هو في حالة غليان.

لقد أدركت القيادة القطرية أهمية الإعلام ودوره في عصر العولمة وثورة الاتصال؛ إذ قامت هذه القيادة الشابة المتمثلة في الأمير الشاب الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ومن قبله والده الشيخ حمد بتخصيص عشرات الملايين من الدولارات للجزيرة التي أصبحت واحدة من أشهر المعالم حول العالم، كما يُعد شعار قناة الجزيرة واحدًا من العلامات المُميزة الأكثر اعترافاً بها والأكثر نجاحا في تاريخ البث التلفزيوني. فقد أعلن موقع "براند تشانل دوت كوم" أن "الجزيرة" خامس أكثر المؤسسات تأثيراً في العالم بعد مواقع الإنترنت العملاقة مثل: آبل وجوجل وإيكيا.

فالجزيرة اعتمدت على ما يُعرف بالخلطة السحرية المتمثلة في الثالوث الإعلامي: المال والإبداع والحرية. فالمال عند ما يتوافر للوسيلة الإعلامية تجلب بسهولة الكوادر المُبدعة الجاهزة، وكذلك المبدع لا ينجح إعلاميًا إلا بسقف معقول وواسع من الحرية التي في الأساس تعتمد على الإرادة السياسية للسلطة الحاكمة التي تشرف على الإعلام. صحيح كنا نتعجب من تركيز الجزيرة في بداية انطلاقها في مجمل نشراتها الإخبارية على خارطة فلسطين المحتلة؛ إذ تظهر دولة إسرائيل واضحة المعالم وبارزة على معظم أرض فلسطين التاريخية دون ذكر ما يُشير إلى وجود دولة فلسطينية مماثلة لإسرائيل، وذلك من خلال التكرار الهادف لإقناع الأجيال الجديدة بأن إسرائيل كيان طبيعي في المنطقة، وعلى الرغم من ذلك أثبتت الأيام صدق الجزيرة، وانحيازها نحو الحق والوقوف مع القضايا العادلة للشعوب العربية.

وفي الختام.. إن غزة بحاجة للإغاثة العاجلة من أبناء هذه الأمة المخلصين فهذه المنطقة المكتظة بالسكان التي تخضع للحصار الإسرائيلي منذ سنوات طويلة بحاجة إلى الدواء والغذاء والمساعدات المالية لبناء ما تم تدميره هذه الأيام من قصف الترسانة العسكرية الصهيونية الغاشمة. فيجب أن لا نكتفي ببيانات التنديد التي تصدرها الجامعة العربية منذ خمسين سنة، فالعرب عادة يجتمعون في كل مجزرة ويتكرر على مسامعنا نفس كلمات الشجب التي لا قيمة لها ولا تساوي حتى قيمة الورق والحبر المدون فيها.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري