هل قدمنا الدعم لفلسطين؟

مدرين المكتومية

أصاب العرب والمسلمين الهم والحزن خلال الأيام الماضية، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي الغاشم على شعبنا وأهلنا في فلسطين المُحتلة، وعادت بنا الذاكرة مرة أخرى لنتذكر الطفل مُحمد الدرة، والشيخ أحمد ياسين، وغيرهما الكثيرين من أبطال النضال والكفاح والمقاومة، وضحايا العدوان السافر الهمجي على المدنيين العزل..

أجلس مُتسمرة أمام التلفاز كل يوم أقلب بين القنوات الإخبارية، وأيضاً خلال عملي اليومي في نشر وتحرير الأخبار، كنت اشتم رائحة الدماء في الأخبار قبل أن أراها في مقاطع الفيديو والصور التي يعج به الفضاء الإلكتروني، أهرب من تلك المشاهد لأقلب صفحات الجريدة لتقع عيني على صورة طفلة تبكي والدماء تملأ وجهها البريء الذي ستحمل معه طوال حياته مشاعر الانتقام.

لكن هل تخيلنا قدر المُعاناة التي يتكبدها شعب يعيش تحت نير الاحتلال؟ كيف يمكننا أن ندعم شعبًا عاش على مدى أكثر من 73 عاماً ينشد الحرية والاستقلال؟ كيف لنا أن نتخيل مشاعر طفلة بدلاً من أن تلعب بدميتها، نجدها تبحث عن حجر لترميه على من قتل أفراد أسرتها ويتّمها، وشرّد جيرانها وأصدقائها؟ ماذا سيفعل سكان غزة والضفة وغيرها من المدن المحتلة عندما يجدون أنفسهم عاماً تلو الآخر، وعقدا وراء عقد، وهم مكتوفي الأيدي غير قادرين على بناء دولتهم المستقلة؟

تلك الطفلة التي تيتمت وهي في مهدها، ستقف يوماً أمام أبنائها لتخبرهم بأنَّ أسوأ شعور في الكون يمكن أن يعيشه الإنسان في حياته هو الشعور بالخذلان، ستخبرهم أن الإنسان لا يمكنه أن يتنازل عن حقوقه، وستخبرهم أنَّ الحرب قضية الجميع، وأن الجميع مطالب بالدفاع عن أرضه.. ستعزز بداخلهم شعور الثأر، وستخبرهم أنَّ قضية فلسطين لم تكن قضية العرب كما ينبغي؛ بل كانت قضية أبناء تلك الأراضي المحتلة فقط، ستقول لهم بكل قوة: "لا تنتظروا المساعدة من أحد، فمنذ عقود مضت كنت مثلكم، أقف يوماً وقفة الخائف المرتعد، وقفة فتاة صغيرة مشردة لا ترى سوى حطام منزلها، وبقايا دماء متناثرة، ومن هول الصدمة لم تكن لدي أي ردة فعل تجاه الكاميرات التي التقطت لي الصور، ولا التقارير التي تناقلتها الصحف والشاشات عن قريتي والحي الذي أسكنه، لم اتحرَّك.. فقد أخرسني الموقف بأكمله".

ستخبرهم أنَّ فلسطين تبكي قبل أبنائها، تبكي بكاء الصمت، بكاء حارق من الداخل، كما يبكي البشر، تبكي بكاء الخذلان الذي اكتساها لسنوات، وأكل الانتظار لديها ما تبقى من بقايا الأمل باتحاد العرب يومًا ما، ليكون الأقصى قضيتهم قبل قضيتها على الأقل.

ستخبرهم أنهم جيل لم يستمتع بطفولته، عاش طوال حياته تحت نيران القصف ودوي المدافع، ستخبرهم عن تفاصيل الأحداث، والمناظر والمشاهد، ستخبرهم أنهم جيل عاش طوال حياته على صوت المدفعيات والقنابل والصواريخ، جيل لم يكن لديه شيء ليتعلمه سوى أنَّ فلسطين هي البداية والنهاية، ستخبرهم أنهم ظلوا طوال حياتهم ينامون وبجانبهم حجارتهم، وأسلحتهم التقليدية، ستخبرهم أن أبناء فلسطين يتوارثون تلك القضية جيلا بعد جيل بعد أدركوا في النهاية أنها حربهم وحدهم ولن تكون يوماً قضية عربية كما يُشاع وينشر. ستخبرهم أنهم شعب يُحارب نهاراً ويقف في الميادين بأحجار وعصي وأسلحة تقليدية ليحافظ على كرامته، وبليل يظل مرعوباً من فكرة انهيار السقف عليه.

ترحل تلك الفتاة ليأتي غيرها ونعيد الشريط نفسه، فنستيقظ كل يوم على نفس الصور والمشاهد العنيفة، مشاهد مفزعة ومؤلمة، وداعات أبدية، وأخرى تخلف وراءها أناساً معطوبي الأيادي، وآخرين بعاهات مستديمة لا يُمكن الخلاص منها، تظل بالنسبة لهم كشاهد عيان لما حدث، تظل كشيء لاينتهي، كابوس لا يُمكن الاستيقاظ منه أو الهرب عنه بعيدًا، فهو الشيء الوحيد الذي سيكون أقرب إليهم من أي شيء آخر، عندها شراء تذكرة سفر لتغيير أقدارهم لن يكون لها فائدة، سيكتشفون أنهم يعيشون في خدعة كبيرة، وأن قدرهم سيظل ملازماً لهم أينما كانوا وأينما سيكونون، وسيظل رقم المقعد المحاذي لهم في رحلة الهرب ماهي إلا جراحاتهم وانكساراتهم وما تبقى لهم من تلك الحرب الخاسرة من ندبات، ليؤكد لهم ذلك القدر البشع أنه لامفر منه ومن تغيره فهو لن يتخلى عنهم مهما سعوا للتخلي عنه.

إنَّ ما تخلفه الحروب ليس بالضرورة الموت واليتم، بل أشد ما تخلفه هم بشر مثلنا لكنهم لم يعودوا يملكون شيئاً سوى ذاكرة، وذاكرة موقوته. فكما قالت أحلام مستغانمي في روايتها "ذاكرة الجسد": (في الحروب، ليس الذين يموتون هم التعساء دائماً، إن الأتعس هم أولئك الذين يتركون خلفهم ثكالى، يتامى، ومعطوبي أحلام) عندها حتى فكرة الهرب لن تجدي نفعاً خاصة وأننا لن نستطيع أن ننجب ذاكرة أخرى، فكل ما نمتلكه تلك الذاكرة المعطوبة المليئة بالألم والتي لا تتسع سوى لكلمة واحدة "الخذلان".

إنَّ الوضع في فلسطين المحتلة يزداد بشاعة وشناعة برصاص وقذائف المُحتل الغاشم، بدرجة أسوأ مما يتصوره الكثيرون، ممن يخوضون في قضايا تافهة، ولا يحركون ساكنًا، ولهؤلاء أسأل وأقول: هل فلسطين قضيتنا؟ أم أننا نرددها كشعارات لا أكثر؟!