غزة ترد الروح للأقصى والعرب!

 

حمد بن سالم العلوي

لقد يئس الماديون والعلمانيون ومن لا إيمان لهم بالله، فظنوا جازمين ألا عودة للقدس الشريف إلى عرين العروبة مرة أخرى، وأيقنوا أنَّ الظالمين الذين جاوزوا المدى لن يعودوا القهقراء أبدًا، وكانت قناعتهم جازمة بأن الحق مع القوة، وأن من يملك القوة سيورّثها لأجياله القادمة، وأن من كان في الضعف، سوف يظل محافظاً على ضعفه، وسيستمر في حالة نزول وذلك حتى يبلغ الدرك الأسفل من الانهزام والتردي، وذلك قياساً على ما يعتمر نفوسهم من هزيمة داخلية وذل وخذلان، وضعف في الإيمان.

وهذا ديدنُ من لا يقرأ التاريخ قراءة استنتاجية واعية، وأيضاً نتيجة حتمية لمن لا يقرأ القرآن قراءة فهم واستنباط، لذلك يئسوا من نصر الله للعرب، بل ربما يئسوا من قدرة الخالق على تصريف أمور عباده المؤمنين، واستكبروا على الله إخراجهم من الضعف إلى القوة والنصر، فتعالى الله علواً كبيراً عن سفاهتهم، بل هو القادر على نصر عباده المُخلصين المؤمنين، وذلك لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7] وأن أمره عزّ وجلّ ينحصر بين حرفين "ك. ن" بشرط الأخذ بالأسباب والمسببات.

وإنَّ هذه الأسباب المشروطة بالأشراط التالية؛ بأن يلتزمها الإنسان المسلم، وأن يؤمن بها إيمان الواثق بربه، وأن يعمل على تحقيق النصر بها، وليس بالأماني والدعاء على المنابر، وفي محاريب المساجد، أو الجلوس للتضرع تحت المكيفات الباردة وحسب، وإنما أن يفعل ويعمل ليلاً ونهاراً استعداداً لمواجهة العدو الصهيوني الظالم، وكل أشباهه من الأعداء بغض النَّظر عن اللغة والدين.

وهذا ما قام به رجال المُقاومة في غزة العزة وفلسطين المحتلة، وقد عملت قبلهم على ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك قبل أن تفقد قياداتها الموجهة لها، وتولت القيادة في المنطقة من بعدهم المقاومة الإسلامية في لبنان، وقد استلمت راية الكفاح المُسلح بعد إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان نتيجة للغزو الإسرائيلي لبيروت، ولا ننسى الدور الرئيسي الذي ظلت تقوم به دمشق العروبة ومحور المقاومة، وذلك بعدما كانت قد خرجت "مصر السادات" من المعركة القومية للأمة العربية والإسلامية على إثر اتفاقية كامب ديفيد، وفقد العرب المرجعية القيادية من يومها، وتاه الكل في غياهب السنين العجاف.

إنَّ وحدات المقاومة الفلسطينية الشريفة في غزة، قد عملت بقوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[الأنفال: 60] ، وذلك رغم الحصار الشديد والمرير، ولكن لم يمنعهم هذا الحصار والتضييق وهو ليس من العدو الصهيوني وحده، وإنما من إخوة عرب وهو ما قال فيه الشاعر: (وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ) وقد كان واجبهم الديني والقومي مُناصرتهم والوقوف معهم.

إنَّ الشيء المؤكد الآن، هو اختلاف الوضع في فلسطين بقيادة غزة، فقد هزمت الانكسار العربي قبل أن تهزم الطغيان الصهيوني، وصفّرت عداد الهزيمة للقوة الصهيونية الغاشمة اعتباراً من حرب رمضان هذه، فالواجب أن نُطلق عليها "حرب العزة والكرامة" والانتصار للأقصى والشرف العربي. إذن؛ بلدة صغيرة ومحاصرة بقوة ودون رحمة تنتفض كالمارد العظيم، وتثأر للكرامة العربية التي ظلت تُهدر دون مُبرر مقبول، وللأسف بقبول من الأمة العربية كاملة، وكأنها قد أُغشي عليها، وعلى مدى 70 عاماً ونيف، فهذه البلدة الصغيرة وهي "غزة" العزة، تعمل اليوم ما عجزت عنه دول؛ لأنها توكلت على الله وعملت بكتابه الشريف.

لقد لا تكون هذه الهبّة كافية لتحرير فلسطين هذه المرة، ولكن أجزم أنَّ أثرها سيكون كبيراً على معنويات الفلسطينيين والشعوب العربية قاطبة، أكانت شعوبا حرة أم شعوبا خداجة ورابضة، فكل سيتأثر بقدر مُعين، أما الصهاينة فقد عرفوا حجمهم، وعرفوا حجم قوتهم التي كانوا يحلمون أن تمكنهم من إقامة دولة من البحر إلى النهر، فأغلبهم سيبدأ بالبحث عن ملاذٍ يهرب إليه قبل أن يأتي يوم الحسم فلا يجدون عندئذ مطاراً ولا طائرة يهربون عليها؛ لأنَّ الصهيوني يعلم- بل عليه أن يعلم- أن القادم أعظم، ومع ذلك قد تكتفي هذه المعركة "سيف القدس" بتهذيب الكثير من المواقف الصهيونية، وبدايتها عدم ذكر صفقة القرن، والتخلي عن توحيد القدس أو تهجير سكان حي الشيخ جراح، وبذلك سوف يُدفن الغرور والعنجهية الصهيونية إلى الأبد.

إنَّ المراهنين على قوة إسرائيل من صهاينة العرب، سيندمون أيَّما ندم على وقوفهم في الصف الصهيوني، وسيعيدون النظر في مواقفهم الخاطئة تلك، فالذين حلموا أن يقوم الصهاينة بحمايتهم سقط اعتقادهم هذا في أول اختبار عسكري، فماذا لو اجتمع عليهم محور المقاومة بقوة موحدة، بدءاً من غزة مروراً بحزب الله فسوريا فالعراق واليمن وإيران، فهبة كهذه ستكون ماحقة للأعداء والخونة معاً، فلا تتصور لو للحظة أن يكون هناك كياناً اسمه "إسرائيل" على أرض فلسطين، ومن أراد أن يعرف ذلك فلينظر إلى الهلع في البلدان المُطبِّعة، وأوروبا وأمريكا؛ فهذه الدول لا تخاف الآن على الأقل من هزيمة إسرائيل، ولكنها تخاف من شيئين وهما: أولاً؛ عودة اليهود إلى بلدانهم الأصلية، وأن تُعيد التسلط على مُقدرات تلك الدول، وهم قد فرحوا بخروجهم عنهم بالهجرة إلى فلسطين. وثانياً: تحرر العرب من آخر استعمار كوني بغيض، وسيكون العرب سادة أنفسهم في أوطانهم، فعندئذ ستقوى شوكتهم وسيتحرر قرارهم، وستنتقي الشعوب العربية حكامها دون تدخل من الخارج.

اللَّهُمَّ أنصر أهل غزة على أعداء الله والدين والإنسانية، وأنصر أهل فلسطين قاطبة على عدوهم، وحرر بيت المقدس من أنجاس اليهود الغاصبين.. وشكراً غزة أن رددتي لنا الروح والكرامة بعد يأس وكآبة، وبإذن لله القدس لنا .. القدس لنا، والعزة والنصر لأهل غزة.