فلسطين ستنتصر

 

علي بن سالم كفيتان

 

تعلمتُ قصيدة "فلسطين داري ودرب انتصاري" وحفظتها سريعاً في مخيم معسكر فرقة طيطام في جبال ظفار، فقد أخبرني الهدهد ذات يوم أنَّ نايف حواتمة وجورج حبش مرا من هنا، ولعله من المُفارقات أن يكون أستاذي في تلك المرحلة المبكرة هو إبراهيم حواتمة فلسطيني ينتمي لمدينة اللدّ، فقد رضعنا منه قضية فلسطين نحن الريفيين البسطاء، ولا زلت أتذكر هندامه الجميل وقميصه الرمادي الذي يحوي أربعة جيوب تعلوها قلوص مُميزة، وما أجمل الحديث عن فلسطين عندما يُسرج به الأستاذ حواتمة في هذا المكان الهادئ الجميل؛ حيث تتنفس الأرض بلغة العزة والكرامة، كان المنهاج الذي ندرسه قطرياً ولا أدري لماذا كل شيء ارتبط بقطر يكون مُميزاً إلى اليوم. فأبي هاجر إليها لينقذنا من المجاعة واستمرت دوحة بن ثاني تُصارع كبريائها الذي لم يذبل يوماً. في تلك الأيام لم أكن أعرف عن نايف حواتمة شيئاً وإلا سألت أستاذي عن صلة القرابة بينهما، ورغم أنَّه كان يستخدم سلاح العصا كثيراً إلا أنني أجده يجلدنا برحمة رغم الألم فهو يصالحنا فيما بعد بابتسامة غامضة وشيء من الإشادة في اليوم التالي... رحم الله أستاذي إبراهيم حواتمة.

تعلمتُ أنَّ عصابات الصهاينة جلبهم الاستعمار، ووهبهم أرض فلسطين ليكفِّروا بها عمَّا اقترفوه من جرائم في حقهم في أوروبا إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية، فكان ذلك على حساب أرض وشعب فلسطين، ولا زال الغرب يُدافع بشراسة عن خطيئته تلك حتى اليوم، ورغم مرور قرابة 80 عاماً على سلب فلسطين، إلا أن شعبها لا زال يُناضل من أجل الحرية ويدفع أغلى الأثمان من أجلها، فانتفضوا بالحجارة، ومن ثم قفزوا للموت كالفراشات التي تهوي إلى الضوء وتكره الظلام؛ فصعقتهم الآلة الصهيونية التي لا ترحم، لكنهم زرعوا الخوف في قلوب المُستعمر، فكل فلسطيني يمشي على الأرض هو مشروع شهادة، فخاط الغرب القميص من جديد، ووعدوا بأشلاء دولة مقابل اعتراف صاحب الأرض بوجود المستعمر، وللأسف حدث ذلك لعل الدويلة الموعودة تلم شتات الفلسطينيين المبعثرين في كل بقاع الدنيا، إلا أنَّ تلك الدولة ظلت حبراً على أوراق أوسلو، فقد اعترف بها جميع الرؤساء الأمريكيين شفوياً باستثناء دونالد ترامب، ومن المُضحك أن نسمع ذات الأسطوانة بالأمس من الرئيس جو بايدن عندما تحدَّث عن حل الدولتين الوهمي.  

لم يعد الفلسطينيون بحاجة لجيوشنا التي بحثوا عنها قرناً ولم يجدوها، ولم يعد يجديهم فتات أموالنا التي نمنُ بها عليهم صباح مساء، لقد اتخذوا مساراً جديداً يصعب التنازل عنه وخاصةً بعد أن جربوه واكتشفوا فاعليته الكبيرة مع الصهاينة، فإن كانت تقنية الصواريخ والطائرات المُسيرة أتت من جبال زاجروس، فمرحًا لها، وإن كانت القدرات الذاتية والعقول النيرة تستطيع أن تصنع من العدم ومن خلف بوابات الحصار آلاف الصواريخ وتسقطها على رؤوس الصهاينة، فأنعم وأكرم.. فقد لاحظنا القدر الهائل من الخوف والارتباك لدى الصهاينة بعد إمطارهم بزخات صواريخ القسام طوال الأيام الماضية، ولسان حال الفلسطينيين يقول: إن "زدتم زدنا"، فرغم الدمار ورغم الشهداء، إلا أنَّ هذه الجولة ليست كسابقتها؛ فقد شاهدنا لأول مرة زحف الشعوب للحدود الفلسطينية التي تطوقها الجيوش العربية، وانتفض الداخل الفلسطيني بالكامل وشكل "عرب 48" موقفاً قوياً هزَّ الداخل الصهيوني، فبات المستعمر يخوض حروباً وليس حرباً، ولعل أشرسها هي الحرب الاقتصادية، بعد أن عُزلت فلسطين المحتلة عن العالم تماماً تحت وابل الصواريخ الغزاوية.

أيُّها العرب.. فلسطين لم تعد بحاجة لوساطاتكم ولا أموالكم، لقد اتخذت القرار الصعب، وهو الاعتماد على الله وعلى نفسها، فحققت الفارق رغم عمق الجراح، تمنيت عليكم ألا تطفئوا الحرائق التي أشعلتها المقاومة الفلسطينية؛ لأجل خلاصها مع الاستعمار، وتمنيت ألا تجهدوا أنفسكم بالحديث مع الولايات المتحدة الأمريكية كثيراً، فالرئيس الأمريكي لا ينطق هو وإدارته إلا بالكلمات التي نعرفها، وهي أن إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن نفسها، ويتم تصنيف المقاومة الفلسطينية كمنظمة "إرهابية"، فمع من سيتحاور العالم اليوم؟ مع السلطة الميتة سريرياً؟ أم مع سفراء الدول المطبعة داخل الملاجئ الصهيونية؟

قالت لي الخنساء من غزة: لم نعد نكترث للفقد ولا تسقط قلوبنا مع انهيار الأبراج السكنية، لقد حركت شجوننا طلائع النشامى على حدود فلسطين الشرقية، وصيحات التكبير على تلال لبنان الجنوبية، علِمنا أن النبض العربي لا زال حياً، وهذا يكفينا في هذه المرحلة.. اتركونا نعالج اليهود على طريقتنا، ولا تفسدوا علينا هذه الجولة كما أجهضتم سابقاتها.