معضلة العملات الرقمية

 

د. محمد عدنان الحموري

يُمثل الاستثمار بالأموال أحد مرتكزات الحياة لأنك لا تعلم ماذا سيحصل غداً، فإنَّ اعتمادك على مصدر دخل واحد قد يُعرضك للمشاكل ويضعك في مواقف محرجة، لذا يلجأ البعض إلى إنشاء مشاريع صغيرة كدخل إضافي ومنهم من يقوم باستثمار جزء في سوق الأسهم، ومنهم من يقوم باستثماره في الدراسة والتقدم العلمي، ومنهم من يشارك في مشروع قائم أو مشروع جديد، وهذا جميل ومن حق أي شخص أن يعمل ما يحلو له بالطريقة التي يفضلها، حيث إنه من قام بجمع الأموال لاستثماره الخاص وليس بالضرورة أن يوافقك الرأي كل من حولك على ما تنوي القيام به.

مؤخراً وبسبب الظروف الاستثنائية التي يشهدها العالم بعد تفشي وباء كورونا وإغلاق شبه كامل لجميع الأنشطة التجارية والنقل، وتسريح أعداد كبيرة من الموظفين، ومن بقي على رأس عمله تمَّ خصم نسبة من راتبه الشهري، بالإضافة إلى أن غالبية الدول لم تتخذ إجراءات اقتصادية مُقنعة للحد من هذه الأزمة. فأصبح العديد من الأشخاص حول العالم يبحث عن مكان آخر أو فرصة تعتبر مصدراً إضافياً للدخل، وتوجهت الأنظار للعمل على الإنترنت من خلال إنشاء مواقع إلكترونية وصفحات لمتاجر على وسائل التواصل الاجتماعي، وازدهر هذا التوجه وارتفع عدد المواقع والصفحات على الإنترنت والخدمات المقدمة إلى أن أصبح الوضع شبيهاً إلى حد كبير بالتجارة التقليدية وهي أن الأشخاص عندما يرون بقالة أو مطعماً أو مقهى ناجح يتسارعون إلى إنشاء نفس الفكرة.

منهم من ينجح ولكن تفشل الأغلبية لعدم توفر المعرفة أو عدم توفر المادة أو صعوبة تطبيق المشروع على أرض الواقع. تكرر هذا المشهد في عالم الإنترنت حيث ارتفع عدد مقدمي نفس الخدمة أو السلعة إلى أن أصبح العدد كبيراً فاق معدل الطلب على تلك الخدمة أو السلعة.

لذا لجأ البعض إلى البحث عن فرص أخرى تحقق دخلا كبيرا في وقت قصير وفي ظل ظروف كالتي نشهدها مؤخرا وبفضل المواد الدعائية الذكية جدًا على شبكة الإنترنت واختيار الوقت المناسب، واستقطاب المؤثرين في تلك الوسائل توجه البعض إلى سوق العملات الرقمية.

لن نستعرض تاريخ العملات الرقمية وما تحدث عنه الباحثون ورجال الأعمال وهل هي فعلاً المستقبل؟ سأتحدث هنا عن أسفي الشديد عندما أرى هذا الجنون المفتعل من جهات لا أعلم عنها أكثر مما تعلم أنت عزيزي القارئ، كيف لنا أن نقع في نفس الفخ كل مرة، شهدنا ظروفاً استثمارية غامضة على مدى العقود الماضية وكل مرة يخسر غالبية المراهنين عليها.

لكن.. هل العملات الرقمية واقع؟

نعم؛ حيث تخطت إحدى العملات حاجز الترليون دولار في قيمتها، هل تكنولوجيا البلوك تشين التي تقوم عليها فكرة العملات الرقمية حقيقية وتعتبر المستقبل؟ نعم، هل تتوقع ازدهار العملات الرقمية وتكنولوجيا البلوك تشين؟ نعم، هل تتوقع أن ما يحصل من تداول أسعار العملات الرقمية في آخر فترة هو وضع طبيعي لأنَّ الأشخاص يرون فيها المستقبل؟ لا، لنكون واقعيين 99٪ من متداولي العملات الرقمية لا يعلم عنها شيئاً، والفئة الأخطر هي من تظن نفسها أنها تعلم عنها شيئاً وهذا أسوأ، فقد خرج علينا بعض الأشخاص محللين وخبراء في مستقبل وتداول العملات الرقمية وأصبح كل من لا يتاجر بها يعتبر إنساناً غير عصري ولا يعلم عن المستقبل شيئاً.

العملات الرقمية شيء غامض حيث إنك لا تعلم من هم الأطراف في هذه التجارة، في أي سوق آخر حتى في سوق الأسهم هناك معرفة مسبقة بأنَّ كل شيء واضح لجميع الأطراف كيف ستقوم بالاستثمار ومن المسؤول عن تتبع المعاملات وأين ومتى تستطيع سحب استثمارك وماذا يستفيد كل من الأطراف وما هي العوامل التي تؤدي إلى الربح أو الخسارة وفي عالم العقار وتجارة السيارات،  حتى في عالم الكازينوهات والقمار قبل الدخول أنت تعرف من هم الأطراف وكيف ستُراهن، وهناك اتفاق ضمني من الرابح ومن الخاسر، ولكن هنا في عالم العملات الرقمية لا يوجد هذا الوضوح، هل هناك من استفاد من تجارة العملات الرقمية؟ نعم، منهم من حقق الملايين وهم قلة وبعضهم أصدقائي الذين قاموا بدورهم بتشجيع أصدقائي الآخرين على الدخول إلى هذا العالم من خلال الجملة المشهورة (جرب بمئة دولار أنت شو خسران) وينتظر الأغلبية بفارغ الصبر للوصول إلى أهدافهم وأرباحها التي للأسف لن تصل.

ولا ننسى ذكر ما حصل في الأسابيع القليلة الماضية في تركيا، حيث قامت إحدى الشركات المنظمة لعملية التداول في سوق العملات الرقمية بإغلاق أبوابها، ولم يستطيع 265 ألف عميل الدخول إلى حساباتهم، وقام مالك الشركة بالفرار من تركيا بمبلغ مليار ونصف المليار دولار.

لست ضد العملات الرقمية وتكنولوجيا البلوك تشين، أنا ضد من يصدق هذا الكذب ويروج له بأنه تجارة للجميع ويجب محاولة الدخول إليها لتحقيق عائد سريع وسهل ومضمون، لأنك في الغالب لا تعلم ما تتحدث عنه. ولا أظن أنه من الحكمة المراهنة على تجارة أو سوق مهما كانت الظروف يقع مصيره تحت رحمة تغريدة من إيلون مسك.

لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين...

 

تعليق عبر الفيس بوك