الطليعة وسعيدة ووداد.. صُراخ ناعم في مواجهة الغياب والموت والرحيل

رئيس التحرير يكتب: "تاءات نسائية" جديدة تتمرَّد إبداعيا لتُعيد إلى حياتنا الأمل

حاتم الطائي

شخصيات الطليعة الشحرية في سردها الدرامي تعيش "عوالم مرعبة".. مُتطرفة في مواجهة قدرها المحتوم

تمرُّد سعيدة البرعمية أشبه بثورة ناعمة لانتزاع اعتراف بالوجود وإقرار بالحضور وحق في تقرير المصير

في حَضْرة كتابات وداد الإسطنبولي تشعر بصراخ بين ثنايا الحروف لإيصال رسالةٍ ما من رحم تجربة ذاتيَّة واعية

النصوص الإبداعية للثلاثي "الطليعة وسعيدة ووداد" تستحق وقفة نقدية.. إنِّهن أصوات أدبية واعدة ومميزة تشق طريقها بعيدًا عن المساحات الضحلة والصخب

هناك بعيدًا تبحر أصواتكن القادمة من الجنوب حيث الهواء أنقى وأجمل وحيث البحر أكثر عمقًا وصفاءً

 

لا يُمكن لكتابةٍ ما أنْ تنشأ مُطلقاً من اللا شيء؛ إذ هي نِتاجٌ فِعليُّ لفكرةٍ تعتملُ في الصَّدر، وتأخذُ حيزًا لا بأس به من العَقل، باحثةً عن مُتنفَّس لها لمُغادرة ضِيْقِ الشَّرنقة إلى حيثُ مُلامسة فضاء الواقع الفسيح؛ إمَّا بالمُشافهة أحياناً، أو التدوين طوراً، والفعل ثالثاً وأخيرًا.. فعلٌ لا يخضعُ لمنطقٍ أو جِنس، كما تذوب في ثناياه فَوَارق العُمر ومراحل الزمن الفاصلة بين الأجيال.. شيء أشبه بظاهرة الصَّوتِ وصداه، لا يتغيَّر كُنهه إن كان صاحبه رجلًا أو امرأة، طفلًا أو شابًّا.

واليوم تُسجِّل فضَاءات الإبداع الوطنيِّ عُلوًّا لَطِيفًا لكَعْب ثلاثِ كاتبات شابَّات مُبدعات، تألقن في كتابة نُصُوصٍ يُمكن اعتبارها نصُوصًا مفتوحَة، وإنْ كانت تميل إلى السَّرد القصَصي والبوح والحَكيْ، كُتبت في آنية زمنية واحدة، وكأنهنَّ جِئن دفعةً واحدةً، يجمعهن -على اختلاف الخط العام لكتابات كلٍّ منهن- كثيرٌ من الخيوط والوشائج والرغبة العارمة في التعبير لقول شيء ما: "ها نحن هنا"، نكتب ونرفع راية الأمل عاليًا عبر بوابة اللغة.

Untitled-1.jpg

أصواتٌ جاءتْ لتُسمِعنا هديرَ بحر العرب، وجبال سمحَان، وأمطار الخريف.. ينسجن من غَزَل ذكريات الجدَّات، وينطلقن بأرواحهن الخفاف بشوق إلى المُستقبل الحالم، عبر بوابة "التمرُّد".. تمرُّد على قوالب المألوف، تمردٌ يشرُع نوافذ غُلقى تَمنَح نصُوصهن الأُلفة والإثارة والغياب، كأصوات تُلهب وتُشعل الدَّوَاخل، فتودُّ لو حلقت بعيداً إلى حيث فضاء اللغة الطلق.. كتابات سرد بمعايير عالية، واعتبارات خاصة، تُثري الساحة الأدبية وتُبقي على حضور مشهديتها.

 

(1) الطليعة الشحرية.. مسافة التوتر

على عكس الخيالات والأحلام، لا يحدُث شيء في الحياة خارج نسيج الأزمنة والأمكنة؛ وهو ما يفرض نوعًا من الإدراك على الكاتب بضرورة لزوم الحرص على وضع شخصياته في إطارٍ حركيٍّ مُحدَّد لتكوين مشهدٍ ما.. وهو ما بَرَعت الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو) في انتهاجه بمِثالية عالية، ولغةٍ رصينةٍ، وسلاسةٍ مشوِّقة، بات من الممكن معها تَقِسيم نصوص كتاباتها وفقَ خطيْن متوازييْن؛ أحدهما ينحو باتجاه السَّرد الدرامي كما في سلسلة "قصص الشريد". والثاني: التكثيف الشعري كما في نص "رتوش"؛ الذي يفيض بحس المفارقة العالي، وجذب القارئ لغواية النص والولوج فيه، بنفس الإثارة التي تدعوه إلى التفكير والتأمل والمتعة الفكرية.

فعبر سبعةِ نصوص قصيرة، كُتبت بلغة مُكثَّفة، تشترك في مواقف عادية رُبَّما، لكنَّ نهاياتها صادمة كما في نص "حظر تجوال"؛ حيث: "الساعة العاشرة صباحاً غرَّد أحدهم: حالات كورونا في تزايد، إيش صار؟"، إنها بمثابة دعوة للتفكير والبحث عن معنى في فراغ الأمكنة التي تختارها الكاتبة بعناية فائقة.

وفي "الشريد الأبدي"، و"الكلب الأسود" و"ألتي أحروم لو"، تتابع الطليعة شريدها الأبدي، هاربًا من الثأر والقتل، من كهف إلى آخر، بحثا ًعن السلام في عالم مرعب. وكأنه تكثيف لقَدَرِ الإنسان الباحث عن السلام المفقود، مَشَاهد مُرعِبة من الدُّخان وحرق الأطفال ترسم شخوصها بعناية ودقة فائقة في التفاصيل.

ويتشارَك الشريدَ على خطِّ التوازي في رحلة البحث عن شيء ما، فمثلا شخصيةُ الخرساء، التي تجوب الأودية والجبال حملت من رجل اغتصبها، فتعيش حياة التشرد حتى تموت من العطش في الصحاري المفتوحة بعد أن تفقد رضيعتها.

إنَّ شخصيات الطليعة في سردها الدرامي هي شخصيات مرعوبة لا يهدأ لها بال، هائمة على وجه البسيطة، باحثة عن وجهة وعن مصير، شخصيات متطرفة في قدرها الناعق بها نحو الهاوية والموت.

جانب آخر تتميز فيه الطليعة، وهو تمسكها بالجذور الشحرية، فكثيرًا ما تُوظِّف اللغة الشحرية (اللغة الجباليّة) في سياق سردي شيق ومُثير للدهشة ومحفز على السؤال عن المعنى، ولذا نجد الطليعة تُرفق ترجمةً إلى العربية، في تجانس لغوي بديع، وتلاقح حضاري بين الماضي والحاضر؛ الماضي الأصيل المترسخ في جذور المُتكلمين باللغة الشحرية من أهل المحافظة، الذين حافظوا على هويتهم الضاربة في أعماق التاريخ، وعضّوا عليها بالنواجذ لأجل صونها وحمايتها من المتغيرات الحضارية.. والتوظيف اللغوي عند الطليعة يعكس بُعدًا فلسفيًا آخر، يبرهن أنَّ التمسك بالجذور لا يعني الجمود؛ بل الحركة والديناميكية المُفعمة بالطاقة التي تشع أملًا ونورًا.. فإدخال اللغة الشحرية إلى النَّص العربي يُعزز من ثرائه المعرفي ويُؤطر لجماليات سيميائية في جوهر النص، ويشير إلى نوعٍ من الثراء الثقافي الذي تتميز به الكاتبة.

وفي "رتوش" تبرع الطليعة الشابة في حلحلة الفوارق بين مُتناقضات حياتية، عبر تكثيف ممتع مُباشر، ينتقل بك بين جمَاليَّات المناطق الرمادية بين الأشياء.. إنها رتُوش حقيقية، يلتقِي على جانبيها كما سبق وأشرنا هذان الخطان المتوازيان لدى "حالوت" التي تشق طريقها بأسلوب المفارقة الذي يطغى على جميع نصوصها، حيث تخلق فجوة/ مسافة توتر بين القارئ والنص؛ ليبحث عن أفق النص المفتوح. إنِّه قدر الإنسان الوجودي في التيه في صحراء بلا ماء ولا مطر.. هذا الشعور الوجودي العميق الذي تلتقطه الكاتبة ببراعة شديدة لتعبر عن صوت مُبهر جديد في سماء الإبداع.

 

(2) سعيدة البرعمية.. تمرُّد وفَقد

شعور غريب ينساب من بين ثنايا السطور، وكأنَّ الأمر أشبه بثورة ناعمة لانتزاع اعتراف بالوجود، وإقرار بالحضور والحق في تقرير المصير الإبداعي.. هكذا يُمكن توصيف كتابات سعيدة البرعمية، صاحبة صوت التمرد في الإبداع النسوي العُماني، فنصوصها المختلفة تتناسل في تشابه واختلاف، تبحث عن شيء ما في المجهول، وكأنه تجليات الإنسان في التمرد والجمال.

فلا تُمهلك سعيدة منذ العنوان والكلمة الأولى لحظةً لتقحمك عالمها المليء بالموهبة والقدرة والثقة على قوة التعبير؛ فالكتابة لديها بمثابة تفكيك للواقع والتمرد عليه، وهو ما يُمكن تلمسه في نصها البديع "عفوًا: فإنني التاء"؛ فهو نص تأملي وفكري وروحي، يدعو للتمرد على الأشكال النمطية للكتابة التي تقيِّد الكاتب في قوالب بائسة؛ فهي تأخذك بهدوء نحو مساحات التمرد للإنسان: امرأة، رجلا، طفلاً، كهلا حتى أو عجوزًا: "هناك دائمًا ما يستدعي التمرُّد، هناك نصرٌ يتجلى بحدوث التمرد مهما كان نوعه".

ومن نافذة صغيرة في شباك التمرُّد، تأخذنا البرعمية إلى حيث عالم زمرد الحاضرة الغائبة في "كانت هنا فاختفت"، محاولة الإجابة عن السؤال الخالد: "ما رأيك بمحدودية الأشياء الجميلة؟، ولماذا تغيب الشمس وتسلمنا إلى الظلمة؟، ولماذا عدم الخلود؟ لماذا نرحل؟ لماذا يترجَّل الموتى؟ لماذا... لماذا...؟ إنَّها أسئلة الإنسان بحسِّه الوجودي منذ بدء الإنسانية وحتى مواراته الثرى، وهذه هي الثيمة المشتركة بينها وبين رفيقتها الطليعة الشحرية، كما رأينا، والتي سنجدها أيضًا لدى الكاتبة وداد الإسطنبولي.

وفي نصٍّ آخر بعنوان "شوك الصراط"، تُعاني "سمو" فقدَ جوَّالِها، ولم تسطِع تنفيذ وعدها لصديقتها بتصوير المحاضرة.. لكنه الفقد.. فالفقد سمةٌ طاغية على نصُوص البرعمية؛ حيث تعمل على تصعيد الموقف الحياتي إلى تعبير قوي عن رعب الحياة في أقصى تجلياته. لقد ارتمت في حضن سريرها تسكب ما تبقى من ماء العين، فالفقد عظيم.

الفَقدُ يسري بين الكلمات آخذًا مجراه، لنراه في "اقتباس الصمت"، و"الروح والفرجار"؛ حيث معاناة "الروح" في البحث عن فراشات، البحث عن الحب والجمال، وتودُّ لو يُشاركها الجميع ذلك؛ بيد أنَّ الفرجار والمسطرة والمنقلة كان لهم رأي آخر.. لتتوالى الأحداث بعد ذلك تترا.

لقد آثرت سعيدة خوض غِمَار البحث عن راية تنتصر بها للحرية والكتابة، وتتمرَّد بها على الواقع بأشكاله، فبرعت في تقديم صورة عاقلة للتمرُّد الأنثوي، وتحليل أسبابه، بقدرةٍ فائقة على الصُّراخ المكتوم بين ثنايا الحروف والكلمات.

 

(3) وداد الإسطنبولي.. وداد الحياة

تكتبُ بصوتٍ مسمُوع، تشعُر وأنت في حَضْرة كتاباتها وكأنَّها تصرخ لإيصال رسالةٍ ما من رحم تجربة ذاتيَّة واعية.. صوت رَصِين لا يخالجك شكٌّ بأنه يبُوح بأسرار وداد الإسطنبولي نفسها، متميز بقدرته على الرد وتوصيل الحدث بسلاسة واستدراج لغوي مُثير.

ففي "فضفضة".. حكاياتٌ وقصص تعبُّر عن شخص ما "يرتدي قلبه على قدمه"، كما تقول في السطر الأول من النص، فتُرعبنا ونتمسك بمُتابعة الكلمات والأحداث في الغابة السوداء للحياة.. إلى أن تعاود هي القول في السطر الأخير: "نعم، الأمل حافظ التيه، فهل يحققه الرجاء"، إنها متضادات الحياة وعبثيتها الزائفة التي لا يقاومها سوى الأمل النقدي.

"وقفة صمت"، و"أمسية تستعيد ذاكرة مفقودة"، و"أشتاق".. تُشعرك جميعها وكأنَّ النتاج حصيلةُ تآمر نفسي وصراع داخلي باتجاه الخلاص، حيث الجدوى الوجدانية والراحة في الغياب، وهكذا دائماً تسدل الستائر في بعض مشاهد الفرح وتفتح في مشاهد الفوضى وليس الحزن.

لقد تمكَّنت وداد الإسطنبولي من منح القوامة لأدبيات المرأة- وفق المنطق الشعري- معتمدةً مِصدَاقية الحدث، لتبني أُطرًا للتواصُل المرجعي والمبحث الرئيسي في سُلم الأولويات؛ بعيدًا عن الإطار المرتبك والمتحيز، بحضور المنهج ودقته أثناء مقارباتها، وتصوير جذاب للواقع أمام القارئ، ووصف دقيق للشخصيات، ودفقات كبيرة من العاطفة وخصوصاً الحزن والأسى.

وفي نصِّها "في عيني ولا أره" مرآة تعكسُ ذلك كله مجتمعًا:

أجسد صورتك أمامي،

فأراك خيالا، وأراك صمتا

وأراك مُحالا، وأراك حبرا تفجر نقشا

وأراك حروفا تنسج شعرا

وأراك دموعا تنزف قطرا

وأراك ليلا مخيفا رهيبًا

وأراك واقعا أمامي فأخاف القدوم.

هذا أنت!

تسربت نحوي، فخضبت جمود الكلام، وأيقظت حروف الهجاء، فسال الكلام لحنًا حزينا، ونشيدًا مريرا، فأيقنت أنك لقاء قديم، يلف الحنين، قد محته السنين". كنصٍّ من نصوص القصَّة المُحكمَة، بتحكُّم غير عادي في نثرية الشعر وشعرية النص في شخصياته وأجوائه الساحرة المؤثثة بالمحن والإحن والحزن والخوف.

... إنَّ هذه الأصوات الثلاث الصَّاعدة بقوَّة نحو تخوم اللغة والسرد بعيداً عن الضحالة، لتتحلى كلٌّ منها بفرادتها الخاصة، متشاركةً في صياغة نوع من الحساسية الجديدة في الكتابات السردية والشعرية العُمانية، بقوَّة تعبيرٍ عن المُمكن والأحلام، والرغبة العارمة في الصراخ الناعم القريب إلى الهمس.. حساسية تتشكل بحسها اللغوي الذي يُوظف المفارقات كلعبة لغوية وغواية لا تنتهي من البحث عن الكلمات.

وإنني شخصيًّا أنحاز لمثل هذه النصوص في الكتابة الجديدة، والحساسية الجديدة المتمرِّدة، خاصة حين تصدر من أقلام ما زالت في مُقتبل العمر، باتجاه نسف المحايثين وتجاوز اللغة في فضاء من الأجواء الأسطورية، والقدرة على الإبحار بعيدا في فضاء اللغة الطلق، عبر ثيمات الغياب والموت والرحيل، ولكن دون سقوط في السوداوية، بل هي نظرة مغايرة للاحتفاء بالحياة ولكن وفق شروطها القاسية!!

 

* إطلالة نقدية من مَشْهد رأسي على النتاج الإبداعي للمرأة العُمانية في جُغرافيتنا المُلهِمَة

تعليق عبر الفيس بوك