التصميمُ الاِجتماعيُّ.. رؤيةٌ فلسفيَّةٌ

فاطمة البودريس **

نتحرَّكُ كثيراً في عالم الواقع ونتساءل عن علل التركيب والتحليل أملاً في الوصول إلى صفات جديدة لحياتنا المليئة بالعناصر المؤثرة، والمتداخلة مع بعضها البعض، ولعلَّ "كانت" الفيلسوف المعاصر هو "الصديق المُخلِص" في هذا الموقف عندما صنَّف الأحكام العقلية إلى صنفين رئيسين: الأول: يُعبر عن الأحكام التحليلية كأن نقول الجسم ممتد، الشخصية الإنسانية هي مُجمَل العقائد والأفكار، فنلاحظ أنَّ هذه الأحكام تفسر العناصر المتضمنة للجسم والشخصية فقط، فهي لا تُقَدِّم صفة جديدة لهما.

أمَّا الصنف الثاني؛ فهي الأحكام التركيبية على العكس من التحليلية لكونها لا تضيف الصفة المحمولة إلى الموضوع بأسلوب تحليلي، أي أنَّها لا تستخرج الصفة عن طريق التحليل وإنما تُولَد نتيجة لوجود صفة ثانية جديدة لم تكن موجودة من قبل، ولهذا نرى الأحكام التركيبية دائماً تضفي الصفات الجديدة على الموضوعات كأن نقول: الجسم ثقيل، الخيال يصنع التوازن في الحياة النفسية.

ثم يجول نظري بين تلك الموضوعات كحال ممثل السينما الذي ينظر إلى سيناريو دوره ليرى هل هذا الدور ينسجم مع خياله فيصدق على قدراته أم لا؟لأنَّ المعرفة والخيال يحتاجان إلى قدرات عقلية خاصة من الإنسان "وليست أيّ قدرات عادية".

عند تأملي في هذه القدرات أُلاحِظ أنّها في حقيقتها هي الأدوار الفردية في المبدأ والاِجتماعية في الغاية إيماناً مِنَّا بأنَّ الدور هو حلقة الوصل بين الفرد والمجتمع كما جاء في نظرية الدور ""Role Theory- إحدى نظريات علم الاِجتماع المتقدمة، وهو- أي الدور- بحسب مفاهيم هذا العلم: مجموع الأنماط السلوكية المقبولة والمُتَوقَعة اجتماعياً تُنسَب إلى وضع الفرد في المجتمع وتتأثر بالثقافة العامة من حوله وجودة أدائه لهذا الدور.

ولهذا أود التركيز على الدور الاجتماعي، كيف يكون وسيلةً لانبثاق الخيال السوسيولوجي؟ ذلك بأنّ ما أقصده من الخيال السوسيولوجي-الاجتماعي- هو ماعرَّفهُ عالم الاجتماع "رايت ميلز" بأنه قدرة الباحث الفكرية على فهم الصورة الكلية للتاريخ وما فيه من دلالات داخلية للأفراد وتأثير بيئتهم الخارجية في السلوك الاجتماعي لهم.

ومن وظيفة هذا الخيال أن يرسم الصلة الوثيقة بين الحياة الخاصة والمسار التاريخي العام في المجتمع.

ولتحليل سليم سوف أستعين بالإضافات النظرية التي جاءت من جانب علماء الاجتماع: (هانز كيرث، سي رايت ميلز، ماكس فيبر) في نظرية الدور، وهي بمثابة الأسباب التي توصلنا إلى الإجابة كما يلي:

  1. البناء الخلقي للفرد هو نتاج التفاعل الذي يتم بين البناء السيكولوجي والأدوار الاجتماعية التي يشغلها الفرد.
  2. الدور بمثابة حلقة وصل بين البناء الخلقي والبناء الاجتماعي.
  3. يحصل الفرد على حقوق وامتيازات مادية واعتبارية جراء ممارسته لدوره الاجتماعي وهذه الحقوق متساوية مع الواجبات وهذا مبدأ عام في "النظرية".
  4. الدور الذي يشغله الفرد هو الذي يحدد سلوكه اليومي والتفصيلي وهو الذي يحدد علاقاته مع الآخرين بشكل رسمي وغير رسمي.
  5. سلوك الفرد يمكن التنبؤ به من خلال معرفة دوره الاجتماعي.

ويبدو لأول وهلة أنَّ هذه الإضافات هي المؤثر الأول في انبثاق الخيال الاجتماعي بتفاعل مع المجتمع وانسجام مع قوانين التاريخ في صورتها الأكبر، لكن بعد الذي قرأته في "الحركة الجوهرية "كما هي في الفلسفة الإسلامية جعلني أرى الحياة وموضوعاتها بطريقة مختلفة تماماً عمَّا كانت عليه في السابق.

لأنَّ الموجودات عندما فسرتها هذه النظرية رأتْ بأنَّها تسير وفقاً لحركة مستمرة ومتجددة على مدار الساعة، فيلزم من ذلك انعدام وجود وظهور وجود آخر لنفس الموجود، وهذا الوجود الآخر هو أصل في الوجود السابق ولكنَّه احتاج إلى علة مُعِدَّة لكي يظهر إلى الخارج.

على سبيل المثال، حينما نتتبع حركة الإنسان كمصداق أعلى بين الموجودات من حيث الماهية والغاية، ونشاهده يحتك بما حوله من الطبيعيات ويسعى من خلال هذا الاحتكاك أن يسخرها له ويشكلها بما يتناسب وأسلوب العصر إلى أن وصل بها إلى التكنولوجيا كأحدث شكل معرفي نعيشه، فهو في الأساس قد مرَّ بمراحل مُتعددة أثناء هذه الحركة، قد تحول من مرتبة معرفية إلى مرتبة معرفية أخرى ومن مرتبة نفسية إلى مرتبة نفسية أخرى وفي النتيجة إلى مرتبة وجودية تُحيط بدوره الاجتماعي في أيِّ مجالٍ كان.

إلاَّ أنَّ المِثال العِرفاني أبلغ في الوصول إلى قلوبنا وإلى هدفنا من هذا التتبع، فالكون بكل عناصره وتحركاته مرتبط بأسماء الله الحسنى بحسب هذا المثال، وهذه الأسماء ماهي إلَّا انعكاس لحقيقة عينية واقعية وهي الحقيقة الإلهية التي نشعر بها أينما وُجِدنا سواء في المنزل أو الجامعة أوالدور الفكرية الاستراتيجية أو الفنية منها.

لكن كيف كلَّف الله سبحانه وتعالى الإنسان بأن يمتثل لهذه الأسماء الحسنى؟ الإجابة تكمن في قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيُجزون ماكانوا يعملون) الأعراف: 180.

"فادعوه بها" كما وردت في الآية أعلاه تعني أن يعبد الإنسان الله ويخلص له في العبادة وحده لاشريك له، وهذا مصدر اتفاق بين علماء التفسير على اختلاف مدراسهم الفكرية، فالعبادة لابد أن تتجلى في أفعال العباد بما تعكسه تلك الأسماء الحسنى.

فالولي والجميل والحبيب والعليم والواسع والرحيم والبَرّ بعضٌ من الأسماء الحسنى التي تتضمن صفات فعلية لله سبحانه وتعالى ليدبر بها الحياة والكون لكنَّ الإنسان أول وأقوى من تأثر بهذه الأسماء فعندما يصدر منه الحب والعلم والجمال والرحمة والسعة والولاية والبِر فهذا يُعَد من صميم المؤثرية لتلك الأسماء، فتصبح عبادته ذات شكل خاص يحدد دوره مع الآخرين بدقة عالية، مما يؤدي إلى انبثاق خيال اجتماعي له مواصفات منسجمة مع المراتب المعرفية التي قد مرَّ بها الإنسان في حركته مع تلك الأسماء، وهذه المراتب هي ذاتها التي "استنتجتُ" أنَّها الحركة الجوهرية في فلسفة "صدر الدين الشيرازي" فتصبح هذه الحركة هي أساس التكوين والطابع اللذين يحددان الخيال الاجتماعي كما تساءلنا عنه أعلاه وكيف أنَّه ينبثق من الدور الاجتماعي العمراني للمجتمعات الإنسانية، ومن بعده سيُسهِم أفراده في إدراك الصورة الكلية للتاريخ، ومن هنا ارتبط عنوان المقال بمفردة "التصميم" لأنَّ التكوين والطابع عنصران أوليان في التصميم الهندسي المعماري الشقيق في ارتباطه المعرفي بالفلسفة وعلم الاجتماع فكانت الصياغة: "التصميمُ الاِجتماعيُّ .. رؤيةٌ فلسفيَّةٌ".

** كاتبة سعودية

تعليق عبر الفيس بوك