أهداف التنمية المستدامة في مهب رياح "كورونا"

 

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي

باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

 

في عام 2000 انعقدت قمة عالمية، صدر عنها الإعلان المعروف "بإعلان الأمم المتحدة للألفية"، الذي تضمن عددا من الأهداف التنموية، منها القضاء على الجوع والفقر المدقع، وتحقيق تعميم التعليم الابتدائي، والمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، وتقليل وفيات الأطفال ...إلخ، وتعهدت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتحقيقها بحلول عام 2015. وقد تمكنت بعض الدول، خاصة في قارة آسيا، من تحقيق تلك الأهداف بينما عجزت دول أخرى، معظمها في قارة أفريقيا، عن تحقيقها.

وفي عام 2015 اصدرت الأمم المتحدة إعلانا جديدا تضمن ما يعرف "بأهداف التنمية المستدامة" ويطلق عليها اختصارا SDGs، وتشمل سبعة عشر هدفا، أكثرها تكرار أو تحسين لأهداف الألفية وزيدت عليها أهداف، مثل الحصول على مياه الشرب النقية، والطاقة النظيفة، والعمل اللائق ونمو الاقتصاد، والصناعة والابتكار...الخ، وقد دعا الإعلان الدول والمنظمات المنبثقة عن الأمم المتحدة العمل على تحقيق تلك الأهداف قبل عام 2030.

تخللت فترة تنفيذ "إعلان الألفية" الأزمة المالية العالمية التي بدأت في أمريكا عام 2008، وهي أزمة أثرت على القدرات المالية لكثير من الدول، وكانت أحد الأسباب التي حدت من قدراتها في تحقيق "أهداف الألفية". لكن المؤكد أن عدم تحقيق تلك الأهداف في بعض الدول يعود في جانب آخر إلى خلل في أداء المؤسسات المعنية بالاقتصاد والتنمية، لأنه لو وجدت مؤسسات كفؤة لأمكن تجاوز تلك الأزمة وتحققت الأهداف الموضوعة، "فالمؤسسات الجيدة تقاوم وتولد ازدهارا حتى في الأزمات"، وذلك حسبما يرى عالم الاقتصاد الأمريكي، دوغلاس نورث Douglass North واضع علم الاقتصاد المؤسسي الجديد New Institutional Economics، والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1993. ويقصد نورث المؤسسات الرسمية كالقوانين والأنظمة والأجهزة، وكذلك المؤسسات غير الرسمية كالعادات والأعراف الاجتماعية، ومدى تأثيرها، سلبا أوإيجابًا على سيادة القانون وحوكمة المؤسسات الرسمية و على إعلاء قيمة العمل وجودته.

وإذا كانت الأزمة المالية قد أسهمت في إخفاق بعض الدول في تحقيق أهداف الألفية، فمما لا شك فيه أن لجائحة كوفيد-19 أثر مماثل إن لم يكن أكبر، حيث إنها أدت إلى ركود اقتصادي لم يشهد العالم مثيلا له منذ الحرب العالمية الثانية. ويزداد أثر الجائحة سوءًا في الدول التي لا تستجيب المؤسسات المعنية بالاقتصاد والتنمية فيها للمستجدات والمتغيرات.

يصدر البنك الدولي بين فترة وأخرى تقارير تتضمن مؤشرات عن الأضرار التي سببتها جائحة كوفيد-19 على الاقتصاد العالمي، وكذلك تفعل منظمات دولية أخرى مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة العمل الدولية.

وبالرجوع إلى أهداف التنمية المستدامة، المشار إليها أعلاه، فإن تقرير البنك الدولي الذي صدر في ديسمبر من العام الماضي يشير إلى أن كوفيد-19 سيؤدي إلى انتكاسة في مستوى الفقر وفي جهود الحد منه، حيث سيزيد عدد الذين يعيشون على أقل 1.90 دولار يوميا، وهو الحد الأدني للدخل اليومي للفرد، حسبما حددته أهداف التنمية المستدامة. وتوقع التقرير أن ينضم ما يزيد على 115 مليون شخص جديد إلى قائمة الذين يعيشون في براثن الفقر المدقع. كما أشار التقرير كذلك إلى انخفاض في تحويلات المهاجرين والمغتربين إلى بلدانهم بنسبة 14%. كذلك من المتوقع انخفاض أعداد المهاجرين والمغتربين، وذلك لأول مرة في التاريخ.

وأشار تقرير البنك الدولي كذلك إلى أن الركود الذي يتعرض له الاقتصاد العالمي قد أثر على الميزانيات العامة، وحد من قدرات الدول على الإنفاق على الخدمات العامة وعلى خدمة الديون، ولذلك دعا البنك الدائنين إلى تعليق مدفوعات خدمة الدين على الدول المدينة. وقد نتج عن الركود الاقتصادي كذلك انخفاض دخل الأسر، الأمر الذي قد يؤدي إلى نقصان في رأس المال البشري، بسبب اضطرار الأسر إلى المفاضلة بين عدة خيارات وتقديم تضحيات قد تؤثر على مستوى الصحة والتعليم لجيل كامل.

وحول تأثير الجائحة على التعليم، أشار التقرير كذلك إلى تراجع مستوى التحصيل بين تلاميذ المدارس، الأمر الذي يتوقع معه أن يصبح 53% من أطفال البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل عاجزين عن قراءة جملة بسيطة عند إتمام المرحلة الابتدائية، كما أن الجائحة ستتسبب في زيادة ما يسمى "فقر التعلم بين الأطفال". وفي هذا الإطار توقع البنك الدولي أن يفقد هذا الجيل من الطلاب حوالي 10 تريليونات دولار من الدخل، أي حوالي 10% من إجمالي الناتج المحلي العالمي.

وحول المساواة وسد الفجوة بين الجنسين، وهو أحد أهداف التنمية المستدامة، توقع التقرير أن تتسع الفجوة بينهما، وهو ما سيضعف المكاسب التي حققتها المرأة على مدى السنوات السابقة، بما في ذلك المكاسب التي تحققت بعد "إعلان الألفية". كذلك أشار التقرير إلى أنَّ الجائحة أدت إلى زيادة في نقص الأمن الغذائي بين الأطفال، حيث يتوقع إضافة ملايين جديدة من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية.

وإلى جانب ذلك أشار التقرير إلى أن الأعمال الصغيرة والمتوسطة كانت أكثر القطاعات تأثرا بالجائحة، فقد عجز أكثرها عن تسديد قروض أو مستحقات عليها، وهوما أثر سلباً على كثير من رواد الأعمال والعاملين لحسابهم. وبالإضافة إلى ذلك فقد الملايين من العمال وظائفهم، خاصة في قطاع السياحة وقطاع الصناعات التحويلية، الأمر الذي أدى إلى تدهور في مستويات دخول العمال، وتتوقع منظمة العمل الدولية أن تصل الخسائر في الدخل إلى حوالي 3.7 تريليون دولار، أي ما يعادل 4.4% من إجمالي الناتج المحلي العالمي.

ومنذ الأشهر الأولى لبداية جائحة كوفيد- 19 اتخذت الحكومة، بتوجيهات سامية من جلالة السلطان المعظم- حفظه الله- عدة خطوات للحد من الآثار الاقتصادية لها، وكان آخرها ما صدر في هذا الشهر، تحت عنوان "حزمة مبادرات الحماية الاجتماعية"، وهي حزمة موجهة في أغلب مكوناتها إلى الأسر والأفراد ذوي الدخل المنخفض والمتوسط، وتتضمن إعفاءات من قروض ومستحقات سابقة ومن ضريبة القيمة المضافة على بعض الخدمات، وكذلك تقديم قروض بدون فوائد لممارسة بعض الأعمال التجارية والمهن. مما لا شك فيه أن تلك الخطوات تدل على اهتمام الحكومة بالفئات محدودة الدخل والتخفيف من الأعباء التي تتكبدها منذ ما قبل جائحة كوفيد-19، وهناك أمل في أن تكون هناك خطوات أخرى تجعل "المؤسسات"، المشار إليها في نظرية دوغلاس نورث، أكثر استجابة للمستجدات والمتغيرات بما يسهل على المستثمرين البدء في مشاريعهم ويشجع على دخول استثمارات جديدة إلى السوق.

إن من المهم الإعلان عن مشروعات كبيرة، سواء كانت من مشاريع البنية الأساسية التي تقيمها الحكومة أو مشاريع المستثمرين من القطاع الخاص والشركات التي تملكها الحكومة، وذلك ضروري ليس فقط لإخراج الاقتصاد من الوضع الذي فرضته جائحة كوفيد-19، ولكن أيضاً لبناء اقتصاد حديث متنوع الموارد ومولد لفرص العمل من أجل المساعدة على تحقيق أهداف أفضل حتى من "أهداف التنمية المستدامة"، وفي فترة زمنية تسبق عام 2030 الذي حددته الأمم المتحدة لتحقيق تلك الأهداف.

تعليق عبر الفيس بوك