ثقافة التعايش المذهبي من واقع الدراسة الشرعية

إبراهيم بن خليفة بن راشد الربيعي

«التعايش مبدأ أساسي يقوم عليه الوجود السلمي المشترك للأفراد والجماعات، بما تحمله من اختلافات حضارية وثقافية وأثنية وقومية، سواء على مستوى الدولة الواحدة أم على مستوى الوجود الإنساني في هذا الكوكب، والبديل المغاير للتعايش هو الصراع الصفري (بقاء الذات يتوقف على زوال الآخر) الفردي والجماعي بكل ما ينطوي عليه من تعصب، واستعلاء، واستبداد، وضيق أفق، واحتراب أهلي، وما ينتج عنها من انقسام حاد، وفوضوي، وألم وكراهية متبادلة بين البشر».

ومع هذا، فإن مفهوم (التعايش) يعدُّ مفهومًا حديثًا، كثر رواجه وتداوله في الأوساط الدينية والسياسية، ولم يحض باهتمام ملحوظ إلا في الفترة الأخيرة، لا سيما في عالمنا العربي والإسلامي، ويمكننا تعريفه بمفهومه العام بأنه «حالة عيش في محيط مشترك بين جماعات ذات انتماءات وتوجهات مختلفة، تتسم بالسلام والاحترام والاتفاق على رعاية المصالح العامة، تنشأ نتيجة لوجود وعي بأهميتها وأهمية نبذ ما يخلُّ بها».

وقد انقسمَ الناسُ منذ أن خلق اللهُ الأرض إلى ثقافات وتوجهات مختلفة، إلا أن التعايش بقي محتومًا عليهم، فلم يمنع انقسامهم من تعاونهم في شؤونهم اليومية، واندماجهم مع بعضهم في تسيير أمور حياتهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].

وسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تحمل عددًا من الأمثلة على التعايش وضمان حق الآخر، ومن أبرز تلك الأمثلة (وثيقة المدينة) التي تعتبر أول دستور مدني في التاريخ، والتي أسست للعيش المشترك بين مواطني دولة ناشئة يحملون كل أشكال الاختلاف وصنوف التعدد، وحملت قيمًا عظيمة في أصول العلاقة بين أطياف الدولة، ومن هذه القيم الإقرارُ بمبدأ التعددية -بكل تجلياتها- والقبول بالآخر المختلف دينيًّا وعرقيًّا وثقافيًّا، أي القبول بحق كل منهم في الوجود.

يقول الشيخ علي يحيى معمر: «وأنا على يقين في نفسي أنَّ المذهبيَّة في الأمَّة الإسلاميَّة لا تتحطَّم بالقوَّة، ولا تتحطَّم بالحجَّة، ولا تتحطَّم بالقانون، فإنَّ هذه الوسائل لا تزيدها إلاَّ شدَّة في التعصُّب، وقوَّة في ردِّ الفعل، وإنـَّما تتحطَّم المذهبية بالمعرفة والتعارف والاعتراف.

  • فبالمعرفة يفهم كلُّ واحد ما يتمسَّك به الآخرون، ولـماذا يتمسَّكون به.
  • وبالتعارف يشتركون في السلوك والأداء الجماعيِّ للعبادات.
  • وبالاعتراف يتقبَّل كلُّ واحد منهم مسلك الآخر برضى، ويعطيه مثل الحقِّ الذي يعطيه لنفسه، اجتهد فأصاب أو اجتهد فأخطأ».

وبالنظر إلى واقع الدراسة الشرعية ودورها في تحقيق مبدأ التعايش بين المذاهب الإسلامية، نجد تجربة «مركز التعليم عن بعد» بسلطنة عُمان تجربة رائدة في هذا المجال؛ إذ يستقبل المركز طلبة من مختلف البلدان العربية وغير العربية، بمذاهب وتوجهات مختلفة ومتنوعة، وكذلك فإن المركز يتعاقد مع أساتذة وأكاديميين من بلدان عدة، يتبعون مذاهب فكرية وفقهية متنوعة، وبهذا التنوع المذهبي والعرقي والجغرافي يشكل «مركز التعليم عن بعد» مركز التقاء ثقافي حضاري.

ينتهج المركز في برنامجه التدريسي وفي مقرراته التعليمية منهج الوسطية، متبعة أسلوبًا علميًا رصينًا قائمًا على التدرج في العلوم الشرعية واللغوية والإنسانية، والنظر في المسائل الخلافية المتعلقة بالعقيدة والفقه نظرة تقصي الدليل وذكر الأدلة المختلفة، ومناقشتها وتبيين وإيضاح الراجح منها، دون إلزام بها أو إكراه على اتباعها.

كما ينتهج المركز منهج الفقه المقارن في تدريس أبواب الفقه المختلفة، بحيث تُستعرَض أدلة كل مذهب في المسألة الفقهية، وتُناقش وتُوضح ويُبين الصواب منها، وهذا ما يلاحظه الدارس في مقررات المركز، كفقه العبادات والمعاملات، والقضايا الفقيهة المعاصرة، ومقررات مثل: فقه الاختلاف، والمسلمون والعالم المعاصر، والدعوة وطرق الاتصال، ومهارات الحوار، ومنهج الدعوة، وغيرها من المقررات الدراسية.

وبهذا، فإن «مركز التعليم عن بعد» يكمل النهج الذي رسمته السلطنة في تحقيقها للتعايش بين المكونات المذهبية للمجتمع العماني، ونقل هذه التجربة إلى العالم، هذا النهج والتوجه الواعد الساعي لتجاوز العقبات، وفتح الآفاق، واستشراف المستقبل، الذي يخدم العالم والمشترك الإنساني، ويضع العالم الإسلامي على طريق التوحد والنهوض والتقدم.

تعليق عبر الفيس بوك