أمانة القلم

 

 

محمد بن حمد البادي *

لا يخفى على الجميع أهمية الكتابة في حياة الشعوب، وأثرها العظيم في تأسيس الدول، ووَضْع دساتيرها، كما فعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أول مرة في دستور المدينة المنورة؛ لمَّا جلَس مع اليهود وغيرهم من أهل القبائل ليتَّفق معهم على الأسس المشتركة لحماية المدينة المنورة، وطرق الدفاع عنها، وما لهم وما عليهم، حال قيادته لها صلى الله عليه وسلم.

كما أنَّ تاريخ الحضارات والممالك والإمبراطوريات نقل إلينا عن طريق الكتابة، وهي أهم وسيلة لنقل المعارف والعلوم بين الأجيال، وهي من أهم مقاييس الرُّقي والتحضر لدى الشعوب، ووسيلة لحفظ حقوق الناس من الضياع أو الإنكار...وغيرها الكثير من الفوائد التي لا تحصى ولا تعد.

أضِف إلى ذلك ما للكتابة من أهمية كبيرة؛ باعتبارها قناة لا يستهان بها في توجيه الرأي العام، والتأثير على العقول والمفاهيم والأفكار، وهي سلاح ذو حدين. الكلمة الطيبة التي ترفع صاحبها وأيضا الكلمة الخبيثة التي توبق كاتبها. قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم: 24-27).

إلا أنَّ الكتابة اليوم -ومع عِظَمِ أهميتها، ومع الغزو التكنولوجي الهائل للعالم؛ ومع انتشار منصات التواصل الاجتماعي بشتى صنوفها وأنواعها- أصبحت ميداناً لا حمى له، وساحةً ينازل فيها القوي والضعيف، من يقدر ومن لا يقدر، يقتحمها العالم والجاهل، ومن يعرف ومن لا يعرف؛ فنستغرب من حال أولئك المحسوبين على الكتّاب والأدباء والإعلاميين، باعة المبادئ؛ الذين يستظلون تحت ظلال الحرية الشخصية، وقد نصّبوا أنفسهم حراساً للفضيلة، وحماةً للمبادئ النبيلة، ورعاةً للحقوق المسلوبة؛ فسطروا بأقلامهم من الفجور والضلال والنفاق ما إن مزج بماء البحر لمزجه خبثاً ونتناً وعفناً.

نَراهم وقد جنَّدوا أنفسهم لمحاربة محاسن الأخلاق، وبث بذور الشر والفرقة والفساد والشقاق، يسعون لهدم صروح القيم والثوابت التي نشأت عليها الشعوب، ويحملون معاولهم لتحطيم أساسات العادات والتقاليد المجتمعية، يهرفون بما لا يعرفون، قاموا وقعدوا، وأرغوا وأزبدوا، وخبوا ووضعوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم، وشمروا واستنفروا؛ فكتبوا ونعقوا ونهقوا، فتارة يلوحون، وتارة يصرحون؛ فلا تخلو كتاباتهم من همزٍ ولمزٍ، أو تحريضٍ على فساد، أو انتقاد واعتراض على حق، أو إقرار لباطل، أو بث شبهات وشهوات ومنكرات، يلصقون التهم؛ ويصدرون الأحكام المسبقة، مستدلين بأدلة من وحي الخيال، ما أنزل الله بها من سلطان.

ألا فليتّق الله تعالى كلّ من أمسك قلماً، وليعلم أن كتاباته من جملة أعماله التي سيحاسب عليها يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

ولله درُّ القائل:

وما من كاتب إلا سيفنى *** ويُبقي الله ما كتبت يداه

فلا تكتب بخطك غير شيءٍ *** يسرك في القيامة أن تراه

فالكتابة تعدُّ من الأعمال الباقية التي يجري خيرها أو وزرها على المرء، فقد رُوِيَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". وكذلك الحديث الشريف؛ الذي رواه أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، أخرجهما مسلمٌ في صحيحه.

فاللبيب من حمل القلم بحقه فأنجاه في الدنيا والآخرة، والمغبون من أرداه قلمه في الهاوية، وما أدراك ما هي، نار حامية.

 

* إخصائي توجيه مهني