د. محمد بن عوض المشيخي *
بعد بضعة أيام، يظلنا شهر رمضان المبارك بنفحاته الإيمانية العطرة، ومكارمه الربانية الكثيرة، فيه نزل القرآن الكريم على خير البشر، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ فالشهر الكريم خير شهور السنة، فبدايته رحمة ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، للذين يحسنون صيامهم وقيامهم وواجباتهم تجاه بارئهم، ويكفون ألسنتهم وأفعالهم عن البلاد والعباد، بعيدا عن الرياء والنفاق الاجتماعي، والمظاهر الخادعة.
فهذا الشهر المبارك تتضاعف فيه الحسنات، وتزيد فيه الصدقات، وتتواصل فيه النفوس، وتلتئم فيه جراح الزمن، ويجتمع فيه شمل الأرحام والأقارب على مائدة الإفطار.
لقد حان الوقت لغسل القلوب والأنفس من الأحقاد والضغائن التي تراكمت على مر السنين في نفوسنا لمن حولنا من البشر. فالدنيا متاع الغرور، ولا تستحق أن نخاصم الإخوة والجيران والأصدقاء؛ من أجل الكسب والفوز بالغنائم بأية طريقة كانت، حتى لو كان ذلك على حساب تعاليم ديننا الحنيف، والقيم النبيلة والأخلاق الكريمة، التي ورثناها عن الآباء والأجداد، الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم ويضحون من أجل الآخرين، ويرضون بما قسم الله لهم، وما تجود به هذه الحياة من نعم، وإن كانت بالكاد تكفيهم وتغنيهم عن سؤال الآخرين.
إن حب الخير للناس والعمل على إسعادهم من الصفات النادرة في هذا الزمن، فإذا لم نجد للمحتاجين بأموالنا؛ فكف الأذى عنهم، وقول الكلمة الطيبة، والابتسامة في وجوههم خير من صدقة يتبعها أذى وإهانة.
هناك من البشر في هذا العصر من يصابون بخيبة أمل وانزعاج شديد؛ عندما يرون غيرهم من الناس قد حققوا مكاسب مالية، ومناصب رفيعة، وشهادات عُليا من أعرق الجامعات، حتى ولو كان مكاسب هؤلاء المغضوب عليهم، سوف تعود بالنفع للوطن والمجتمع بشكل عام. من هنا أتذكر كلاما معبرا عن هذا الواقع المرير؛ للعالم المصري الراحل أحمد زويل الذي قال "الأوروبيون ليسوا أذكى منا، لكنهم يقفون ويدعمون الفاشل حتى ينجح، أما نحن فنحارب الناجح حتى يفشل". بالفعل هناك أعداء النجاح في كل المنافذ والزوايا المحيطة بنا؛ والذين يتمنون أن يعم الفشل على الجميع دون تمييز، لكي يتساوى معهم الناجحون والمجتهدون، ويتقاسم الجميع الأصفار. إنها خيبة أمل ونظرة سلبية للأمور، فمنطق هؤلاء الحساد أنهم لا يحبون الخير لغيرهم. فهم لا يتحملون أن تنزل النعم على من حولهم من العباد.
ماذا لو نظر أعداء النجاح بعين الرضا لهذه الحياة القصيرة، واعتبروا تلك الإنجازات والمكاسب التي حققها الآخرون الذين في العادة ننظر لهم بعين الريبة والتوجس، أنه خير وقيمة مضافة لنا جميعا إذا أحسنا الظن بمن حولنا، فندعو لكل الناجحين في هذا البلد العزيز بالتوفيق والهداية.
فهذا التاجر الناجح المقتدر، عليه أن يتصدق من ماله على الفقراء، ويخرج الزكاة، لأن لا استقرار لتجارته وسط بلد فيه فقراء يبحثون عن لقمة العيش، ولو بالسرقة. وعلى حامل الشهادات العلمية أن يكون مخلصا وأمينا في إفادة المجتمع بما تعلمه، وعلى المسؤول أو صاحب المنصب أن يدرك أنه أتى لهذه الوظيفة لخدمة المجتمع وليس للتعالي والتكبر، انطلاقا من مبدأ أن المسؤولية تكليف قبل أن تكون تشريفا.
لقد ابتُلينا بالعديد من الأمراض الاجتماعية المقيتة والمدمرة للمجتمع؛ كالحسد والكراهية والتعالي على الآخرين؛ مما ترتب على ذلك مراقبتنا للناس من حولنا؛ بهدف التعرف على أملاكهم ووظائفهم ودخلهم من أعمالهم التجارية. فعندنا تُهم جاهزة لهؤلاء الذين يظهر ثراهم على الملأ، أو يتولون مناصب عليا، ونصفهم اجتماعيا بكبار المسؤولين والأغنياء، وتتمثل هذه التهم بالغش والسرقة وجمع المال بطرق غير مشروعة. صحيح قد تكون هناك تجاوزات من البعض في الكسب غير المشروع، ولكن لا نملك الدليل القاطع ولا الوسائل الرادعة لوقف هذه الممارسات غير المشروعة؛ لحماية المال العام أو وقف التجارة غير المشروعة. فيجب الاعتراف بأننا لا نعيش في المدينة الفاضلة، بل هناك نجاحات وإخفاقات بطبيعة الحال، فلا يوجد مجتمع في هذا العالم خال بالكامل من الفساد، ولكن تختلف المعالجات والمحاسبات من دولة إلى أخرى. ففي بعض المجتمعات هناك شعور بالضمير لدى المسؤول الذي يتجاوز صلاحيته، ففي السويد مثلا تقدمت وزيرة من أعضاء الحكومة السويدية باستقالتها عندما عبَّأت خزان سيارتها بالوقود الذي لا تزيد قيمته عن بعض الدولارات من أموال الوزارة التي تتولاها، بينما نرى تجاوزات جسيمة في المجتمعات الشرقية؛ فالوزير لا يكترث لفعله، بل نجد من يدافع عنه؛ وبالتالي لا يفكر بالاستقالة؛ والسبب هو المجتمع نفسه الذي أخذ منه الوزير ثقافة الكسب غير المشروع. فهناك في مجتمعاتنا العربية من يعتقد إلى هذه الساعة أنه يجوز وضع اليد على المال العام كلما كانت هناك فرصة سانحة بذلك، حتى أصبحت ممتلكات الدولة وأموالها عرضة للنهب من الكبار والصغار على حد سواء.
في واقع الأمر، يجب الاعتراف بأنَّ هؤلاء الذين تجرَّؤوا على هذا العمل غير الأخلاقي هم أبناء لهذه الشعوب العربية، ومعظم هؤلاء كانوا من عامة الناس قبل توليهم المسؤولية. ونحن هنا نسأل سؤالا جوهريا مشروعا: أين تعاليم ديننا الحنيف وقيم المجتمع وتربية الأسرة من هذه السلوكيات؟! لقد قيل قديما "كما تكونوا يولى عليكم".
عمانيًّا، ومنذ بداية العقد المنصرم الذي تزامن مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي خاصة (تويتر والفيسبوك)، تعالت نداءات رواد هذه الوسائل الجديدة، يدعون بشكل دائم ومستمر، إلى وضع منهجية واضحة لمحاربة المخالفات التي تحصل من بعض المتنفذين في مجال حماية المال العام والمحافظة عليه من العابثين، ولكن الجهات الرقابية في البلد تتجاهل ذلك، بل تنفي في الأصل وجود فساد على نطاق واسع؛ وذلك عكس ما يدونه المتحمسون من المواطنين، بشكل يومي على صفحات هذه الوسائل الجماهيرية التي يرتادها مئات الآلاف من المجتمع العماني.
يبدو لي أن هناك من يضرب على الوتر الحساس، ويعمل على زيادة قلق أفراد المجتمع، وتتحول بذلك أوضاع الناس وأحوالهم إلى بؤرة للتوتر؛ مثل السوسة التي تأكل الخشب في غياب حلول أو قناعات من صناع القرار لتلك الأطروحات التي نراها بشكل يومي عبر منصات (تويتر) وتطبيق الواتساب.
لقد ترتب على هذا الوضع شعور المواطن بالحزن والخوف من المستقبل؛ بسبب متابعتهم اليومية وبحثهم الدائم عن الأخبار المتعلقة بالأوضاع المالية الصعبة التي تمر بها السلطنة والدول المجاورة. فهناك بين وقت وآخر من يسرب معلومات يشوبها الشك في دقتها، تتضمن أرقاما فلكية لثروات تقدر بمئات الملايين في حوزة بعض الموظفين العامين على رأس العمل ومن الوزراء السابقين؛ بهدف زيادة نقمة عامة الناس على المسؤولين الذين يعتقد أنهم تسببوا في معاناه المواطن العادي ونهب حقوقه.
وفي الختام، ضيف كريم على الأبواب؛ يجب أن نُحسن استقباله بالتوبة النصوح والإخلاص في العبادات لوجهه تعالى. فرمضان شهر الصبر والتضحيات والإيمان والقيام. وقبل ذلك كله يجب أن نستقبله بالتسامح والتجاوز عن الآخرين الذين قد الحقوا بنا الأذى في سابق الأيام؛ وأن نحتسب ذلك لله.. فالمسامح كريم.
* أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري