تعزيز الصادرات العمانية

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي *

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

في أوائل القرن التاسع عشر، أصدر الاقتصادي البريطاني ديفيد ريكاردو كِتابًا عن الاقتصاد السياسي والضرائب، تضمَّن النظرية المعروفة بنظرية الميزة النسبية Comparative Advantage Theory في التجارة الدولية، التي وضع فيها ريكاردو قواعد وأسباب التجارة بين الدول.

وحسب تلك النظرية، فإنَّ كل بلد يجب أن يتخصص في إنتاج وتصدير السلعة التي يتمتع فيها بميزة نسبية، حتى ولو لم تكن له ميزة مطلقة في إنتاج أي سلعة. معنى ذلك أنه إذا استطاع بلد ما إنتاج سلعة بتكلفة أقل من تكلفة إنتاجه لسلعة أخرى؛ فإن عليه التخصص في إنتاج تلك السلعة وتصديرها، واستيراد السلعة التي تكون تكلفة إنتاجها فيه أعلى.

وكغيرها من النظريات، لم تخلُ نظرية ريكاردو من نقد، إذ اعتبرها البعض نظرية جامدة لأنها تجاهلت مسائل مهمة في التجارة الدولية، ومن ذلك عدم أخذها في الاعتبار قدرة الحكومات على التدخل للنهوض بقطاعات أو صناعات معينة. إلا أنَّ الاقتصاديين مُجمِعون على أهمية تلك النظرية في تفسير أسباب التجارة الدولية وفوائدها، ويؤكدون على ما جاء فيها من أن التجارة بين الدول تخدم الدولة المصدرة والمستوردة، لأنها تزيد من كفاءة الاقتصاد عن طريق التخصص وتفتح خيارات أوسع أمام المستهلكين، أي أنها تحسن أيضا من كفاءة الاستهلاك.

وقد تم لاحقا إدخال تعديل على نظرية ريكاردو بفضل دراسات؛ من أهمها تلك التي أجراها الاقتصادي الأمريكي المعاصر بول كروجمان عن التجارة الدولية، وحصل بموجبها على جائزة نوبل في الاقتصاد، وقد سُمِّيت نظرية ريكاردو بعد تعديلات كروجمان "النظرية الجديدة للتجارة". وحسب هذه النظرية، فإنَّ التقدم العلمي والمعرفي يمكّن الدولة من الاستمرار في "التصنيع كثيف التقانة "High-Tech Manufacturing" ولن تستطيع الدول ذات التكلفة التصنيعية الأقل "Lower-Cost Manufacturing" إخراج الدول التي لديها تقانة عالية. هذا يعني أن إنتاج السلع ذات التقانة العالية يفتح المجال أمام الدول التي زادت فيها تكاليف الإنتاج، ويمكنها من التخصص في إنتاج وتصدير منتجات منافسة لمنتجات الدول ذات التكاليف الأدنى؛ وذلك عن طريق البحث والتطوير أو الابتكار أو التقانة الحديثة.

وقبل أيام، أعلنت السلطنة عن "برنامج لجذب الاستثمارات الخاصة وتعزيز الصادرات إلى الأسواق الخارجية"؛ وذلك ضمن برامج رؤية "عُمان 2040". هذه خطوة مهمة وتأتي في وقت يحتاج فيه الاقتصاد العماني إلى جذب وحشد مزيد من الاستثمارات لإيجاد فرص عمل ولتعزيز الميزان التجاري للسلطنة وتخفيف الضغط على ميزانها الجاري. ولدى السلطنة ميزة نسبية في العديد من السلع التي يمكن تصديرها والمنافسة في الأسواق الخارجية، كما يمكنها تحسين ميزتها النسبية في بعض السلع بعدة وسائل.

وبالاستفادة من نظرية ريكاردو، والتعديلات التي أُدخِلت عليها، يُمكن المقارنة بين صناعتين من الصناعات التي في السلطنة؛ الأولى: صناعة البتروكيماويات التي يعتمد إنتاجها بشكل شبه كامل على مدخلات محلية هي الغاز والنفط، والثانية: صناعة الألمنيوم التي يعتمد إنتاجها على مدخلات خارجية، هي بالأساس خام الألمنيوم (البوكسايت) وعلى مدخلات محلية تتمثل معظمها في الطاقة اللازمة لصهر البوكسايت. واضح للوهلة الأولى أنَّ من الأجدى للسلطنة التخصص في إنتاج البتروكيماويات وتصديرها واستيراد احتياجاتها من الألمنيوم. لكن السلطنة قد تستطيع أيضاً إدخال تقانة حديثة أو تقديم الطاقة بسعر أرخص؛ بحيث تحسن من ميزتها النسبية في صناعة الألمنيوم؛ وبالتالي الاستمرار في انتاجه وتصديره. باختصار، إنَّ التصدير يحتاج إلى وجود ميزة نسبية تساعد على التخصص في انتاج السلعة، غير أنَّه في الوقت ذاته يمكن إيجاد أو زيادة الميزة النسبية في السلع عن طريق إعطاء محفزات أو اعتماد طرق أو تقانة جديدة لإنتاجها.

أشرنا في مقالين سابقين؛ أحدهما بعنوان "خدمات من أجل التصدير"، والآخر بعنوان "الاستثمار في تقانة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين فيها"، إلى أن التجارة الدولية لم تعد محصورة في السلع، بل إن الصادرات من الخدمات أصبحت في الوقت الحاضر تشكل نسبة مهمة فيها، كما أن قطاع الخدمات أصبح يشكل أكثر من 70%  من إجمالي الناتج المحلي العالمي. ونظراً لذلك الدور المتزايد لقطاع الخدمات، فإنه يجب إعطاء هذا القطاع أهمية أكبر عند اتخاذ قرارات تتعلق بالاستثمار أو اعتماد سياسات وبرامج للنهوض بالصادرات في السلطنة.

إنَّ "تعزيز حضور الصادرات العمانية في الأسواق الخارجية"؛ سواء كانت صادرات سلعية أو خدمية، يحتاج إلى خطوات عملية، وفي إطار سياسة عامة لتشجيع الصادرات "Export Oriented Policy" تتضمن تحسين الكفاءة الإنتاجية وتوسيع أو فتح أسواق جديدة، أخذاً بعين الاعتبار اشتداد المنافسة وتزايد العوائق الجمركية والإدارية في الأسواق العالمية. ومن أجل زيادة الميزة النسبية لبعض الصناعات والخدمات في السلطنة، فإنه يجب أولا معرفة ما إذا كانت الصناعة أو الخدمة مناسبة للاستثمار فيها، ثم العمل على تخفيض تكاليف إنتاجها؛ سواء باستخدام التقانة الحديثة أو بتخفيض أسعار مدخلاتها إلى الدرجة التي تمكنها من المنافسة في الأسواق العالمية. كما يمكن، إذا توافر رأس المال البشري والنقدي، التخصُّص في إنتاج السلع والخدمات ذات التقانة العالية؛ مثل: إنتاج أدوات الذكاء الصناعي أو المعدات الطبية، أو إنتاج البرمجيات وتصديرها كخدمات، أو غير ذلك من أجهزة وأدوات.

... إنَّ إدخال التقانة الحديثة والذكاء الصناعي إلى قطاع الصناعة أمر مُلِحٌّ وضروري لسببين؛ أولهما: زيادة كفاءة القطاع وخفض تكاليفه، وثانيهما: تقليل الاعتماد على العمالة الوافدة في هذا القطاع، وخلق فرص عمل لذوي المهارات العالية من المواطنين، وهو ما يعني تحسُّن مستويات الأجور والمزايا الأخرى في هذا القطاع. ومع التسليم بأنَّ إدخال التقانة الحديثة إلى قطاع الصناعة يتطلب استثمارات كبيرة ووقتا طويلا، فإنَّ إدخالها إلى قطاع الخدمات وتطوير بعض الخدمات من أجل تصديرها هو أقل كلفة من الناحية المالية، ويمكن أن يتم من خلال استخدام الخبرات والمهارات المحلية، أو بالتعاون مع خبرات من الخارج.

كذلك من المهم للنهوض بالصادرات العمانية، الاستفادة من الميزة النسبية التي تتمتع بها السلطنة في مجال الطاقة؛ سواء من النفط أو الغاز؛ وذلك حتى تتمكَّن الصناعات المقامة عليه من المنافسة. ولا بد كذلك من توسيع دور وكالة ضمان الصادرات، وتمكينها من ذلك بزيادة المبالغ المتاحة لها لتقديم ضمانات أوسع للمصدِّرين. وهناك عنصر آخر مهم لزيادة القدرة التنافسية للصادرات العمانية، وهو عنصر الجودة، ويجب مراعاة ذلك بإحكام الرقابة من قبل الجهة المعنية بالمواصفات والمقاييس على كل المنتجات؛ سواء ما كان منها للتصدير أو للسوق المحلي؛ لأن رداءة منتج واحد أو وجود عيب فيه، ربما يؤدي لسُمعة سيئة ونفور من بقية المنتجات.

تعليق عبر الفيس بوك