مُت عزيزًا

هند الحمدانية

البيت.. هو حلم العمر، محطة الانتظار المهمة في الحياة، يمثل رمز الاستقرار والأمان للكثيرين، ويبذل في سبيل الوصول إليه أجمل أيام العمر وعرق الجبين وصبر العاجزين، حتى إذا حان الأوان سبقتنا إليه خرائط المختصين وأفكار المهندسين وشيء من رشة أحلام السنين، ومن بين كل خطوات البناء من اختيار الأرض وتنظيفها والسباكة والتشطيب وغيرها من المراحل المختلفة في عملية البناء، هناك مرحلة رئيسية وأساسية تقوم عليها الأعمدة وتقف ثابتة مع مرور الزمن: إنها مرحلة صب الأساس، وهي أهم مرحلة في البناء على الإطلاق.

إذن لا تستقيم البنايات إلا بالأسس الصحيحة التي تضمن المتانة والتوازن والاستمرارية، عندها فقط سوف تصمد شامخة في وجه كل الظروف الداخلية والخارجية، في وجه الأمواج والعواصف والهزات الأرضية، الأسس هي الكلمة التي سوف نتوقف عندها اليوم رابطين بينها ويبن جنسنا البشري، مصورين أنفسنا بالبنايات والمباني، فهل حقا هناك وجه شبه بيننا، وإذا كان وجه الشبه هو الأسس، فما الذي يجب أن يملكه الإنسان ليبقى ثابتا كالمباني الشاهقة والثابتة عبر مر السنين؟!

دعوني آخذكم إلى سهل قريتنا الساحر، إلى حيث تتراقص الحشائش الخضراء متلألئة بلون الفضة الناصعة المنعكسة بفضل قطرات الماء المتناثرة عليها، آخذكم إلى مزرعتنا الهادئة، مزرعتنا التي يحفها الجمال النابع من كل أطياف الزهور والفراشات وزقزقة العصافير المرحب بها دائما، المزرعة التي لا يسكنها سوى حظيرة البقر والماعز والكثير من البط والدجاج وديك، اعتاد الديك بفطرته أن يصيح كل فجر قبيل الأذان، يستبشر بصياحه الصباح، ويلحقه بعد مدة بسيطة صوت الأذان المتدفق عبر المنابر، كانت رائحة السكون والفرح تطوف على أرجاء مزرعتنا السعيدة، حتى جاء ذلك المالك الغريب، طباعُه حادة،ُ هويته غامضة، متقلِّب المزاج، ونبرة صوته غاضبة، شعرنا جميعا بالقلق حيال المالك الجديد، فكيف لمزرعتنا الآمنة أن تصمد تحت وطأة مالك غاضب.

مرَّ يومان إلى الآن، وها نحن قبيل الفجر، الديك يصيح كعادته، مبشِّرا بفجر جديد ونداء رباني لجميع المخلوقات: الله أكبر.. الله أكبر .. الله أكبر.. الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمدا رسول الله............، تمتد يد ثقيلة لرقبة الديك، تسحبه بشدة وترفعه للأعلى وجها لوجه المالك، المالك (صارخا في وجه الديك: لماذا تصيح؟ ما كل هذه الجلبة والإزعاج من الفجر؟ من يومين وأنا أتوعَّد لك بعقاب شديد إثر إزعاجك لي بهذا الصياح العالي كل فجر. فيقول الديك مرتعدا: "آسف سيدي، لم أقصد إزعاجك، لكنَّه واجبي ومتعتي أن أصيح قبل الشروق، مُبشرا الجميع بصباح جديد وبصوت الأذان". المالك غاضبا: اسمعني جيدا، من الغد إذا فعلتها وصحت مجددا، سوف أنتف ريشك الأحمر وأذبحك، وأتلذذ بك على وجبة غدائي، هيا اذهب ولا أريد لك صوتا بعد اليوم، الديك (حزينا وخائفا): حسنا يا سيدي لك ما تريد. لم ينم الديك طيلة الليل، يفكر محتارا ما الذي سيفعله، وهل يتنازل عن حقه في الصياح، أم يبقى صامدا رافعا صوته بالصياح. وجاء فجر اليوم التالي وحان الوقت، فقال الديك: أصيح أم أصمت منفذا أمر المالك؟ أصيح أم أُذبح؟ أصيح أم أُخرس للأبد؟ رُفع الأذان وأشرقت الشمس وظل ديكنا خارسا إلى الأبد.

مرت الأيام متعاقبة.. مر أسبوع.. أسبوعان، الديك فقد وظيفته، ظل حزينا مكتئبا لأنه فقد دوره وأهميته، حتى جاءه المالك ذات يوم بشكل مفاجئ، المالك: ما دورك أنت في هذه المزرعة، تأكل وتنام فقط، لا يا ديك، اسمعني جيدا من الغد سوف تخرج في وسط الدجاج، تكاكي معهن، هذه مهمتك الجديدة. الديك: ولكن يا سيدي أنا.. المالك مقاطعا الديك: اخرس، إن لم "تكاكي" مع شروق شمس الغد سوف أنتف ريشك هذا وأذبحك وتكون وجبة غدائي.

ظل الديك مرتجفا حائرا، يا إلهي ما هذه الورطة التي وقعت فيها؟ أيعقل هذا الأمر؟ أيعقل أن أكاكي وسط حشد الدجاج؟ ما هذه المهزلة التي تورطت فيها؟!!! ظل ساهرا طوال الليل مهموما يفكر حتى جاء الصباح، وبدأت الدجاج تتراكض في مساحات المزرعة.. تكاكي: كيكي.. كيكي.. كيكي.. كيكي، والديك يقول: أذبح أم أكاكي كدجاجة؟! الحياة غالية جدا، أمري إلى الله، كيكي كيكي كيكي.. كيكي كيكي كيكي، جاء المالك وبدأ بالضحك الشديد، المالك: هأ هأ هأ... أنت مضحك جدا يا ديك، استمر.. استمر بالمكاكاة، هأ هأ هأ...

مرت الأيام التوالي، والديك يصبح ويكاكي، حتى جاء المالك ذات مساء، المالك: اسمعني يا ديك، من الغد أريدك أن تبيض كالدجاج، أريد منك فائدة وجدوى، أسمعتني؟! الديك: ولكن يا سيدي .....، المالك: اخرس.. أريد بيضة منك وإن لم تبِض سوف أنتف ريشك وأذبحك.

كانت تلك الليلة ثقيلة جدا على كاهل الديك، كانت الأنفاس تخرج منه بصعوبة شديدة، كان غارقا في بحر من الهم، فكيف له أن يتخلَّص من هذه المصيبة الجلل، حتى وإن أراد مسايرة المالك في أمره مثلما فعل سابقا، فكيف له أن يفعلها ويبيض؟! بزغت شمس الصباح وأرجل الديك ترتجف، الديك في وسط الدجاج، والدجاج يكاكي: كيكي.. كيكي.. كيكي، والديك مرتعد منتظر حتفه، ها هو المالك قادم بسكينه الحادة، الديك (مكسورا وبصوت مبحوح): ليتني مت صائحا بأعلى صوتي، بدلًا من أن يقال مات لأنه لم يستطع أن يبيض.

ذُبح الديك دون أن يهمس حتى، غادر الحياة ذليلا، متجردا من قيمة وجوده وهي الصياح، هذه هي الحال مع بني البشر، عندما تفقد قيمتك وتتنازل عن مبادئك لأي سبب كان سواءً الخوف أو التهديد أو حتى الطمع، عندها تفقد معناك وتصبح شيئا فارغا، وتخسر ما تبقى من قيمة وجودك.

إذن؛ المبادئ هي الحلقة العظيمة التي تربطنا بالمباني الشاهقة والقلاع الثابتة عبر السنين، هي الأسس والقواعد التي ينطلق منها تفكيرنا وممارساتنا وقراراتنا وأخلاقنا، المبادئ هي الأرضية الصلبة التي من خلالها ينطلق المرء للكون بأسره، فلا تجعل أرضيتك هشة ورطبة وتخسر بعدها ذاتك.

... إنَّ المبادئ الصحيحة للبشر هي السليقة التي فطر الله البشر عليها، ولكن مع التدخلات الكبيرة في مسرى الحياة، ومع كل هذه الضغوطات والتغييرات والمطامع وصراعات الخير والشر، انسلخ العديد من الناس عن مبادئهم وطبيعتهم السليمة؛ لذلك أصبحت أمتنا في الصفوف الأخيرة من الأمم الناهضة، وأصبحت قوالب الأسر في مجتمعاتنا ضعيفة وقابلة للكسر، لهذا أصبحنا أفرادا لا نعرف ماذا نريد ولا إلى أين نحن نحن ذاهبون؟! يقول أحمد الشقيري: "الفرق بيننا وبين اليابانيين أنهم مؤمنون بتطبيق المبادئ أكثر مننا"، وهذا كلام سليم بنسبة عالية، نحن نتغنى بالمبادئ فقط وندندن بها وننظم القصائد و"الأوبريتات"، ليس للمبادئ متكأ صادق عند الأغلبية، المجتمع أصبح أشبه بلوحة جميلة جدا من بعيد، وعندما تقترب منها أكثر فأكثر تجدها بشعة وبألوان باهتة، تطلب من ابنك ألا يُدخن وعندما تخرج إلى بلكونة منزلك تشعل سيجارتك وتستنشق السم، تطلب من زوجتك أن تضع النقاب على وجهها عندما تخرجان إلى السوق، وعندما تمر مجموعة نسوة تشبع عينيك بالنظر الحرام، تثقلي على زوج ابنتك بالطلبات وترفضي أن يقدم ابنك لزوجته القليل من الاهتمام، ترفض توقيع معاملة ناقصة لمراجع مسكين وتوقع على نفس المعاملة الناقصة لقريب لك أو غريب قربته الواسطة.

كُن صاحب مبدأ واضح وثابت في تعاملاتك، كن صاحب قيمة، فهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، كان ثابتا على مبدأ الدعوة، على الرغم من كل أشكال التهديد والترغيب والمساومة التي استخدمها أهل قريش، ظل صامدا هو وأصحابه القلائل حتى قال فيهم الله: "ودوا لو تدهن فيدهنون"، أي ودوا لو تلين وتساوم في دينك، لكنه لم يلِن أو يساوم، لذلك بقيت الدعوة خالدة إلى يوم يبعثون، كن كالنبي، لا تكن مجوَّفا تملؤك المصالح والمطامع، كن صاحب المبادئ الشجاع مهما كانت أوضاعك وظروفك، كن البطل الذي لا يغلبه فقر ولا حاجة ولا ألم ولا وجع، حتى تبقى دائما فائزا برضا الله وضميرك، مت عزيزا صارخا.. صائحا، ولا تمت أخرس كالديك.

تعليق عبر الفيس بوك