الزراعة جذر التنمية

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي *

لقي موضوع الزراعة وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية اهتمامَ كثير من الاقتصاديين وخبراء التنمية منذ زمن بعيد، ولا تزال كثيرٌ من الدول -سواء النامية أو الصناعية- تضع تنمية قطاع الزراعة ضمن أولوياتها، وتحرص على تقديم الدعم له لأجل الأمن الغذائي ولأسباب اجتماعية واقتصادية وبيئية. كما لا تزال الدراسات مستمرة حول دور الزراعة في التنمية المستدامة من عدد من المنظمات الدولية والإقليمية، مثل منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو" والبنك الدولي...وغيرهما.

وإذا كان قطاع الصناعة هو قاطرة النمو والمولد لفرص العمل، كما أشرنا إلى ذلك في مقال سابق نشرته "الرؤية"، فإنَّ قطاع الزراعة هو جذر التنمية؛ لأنَّ تحديثه وتطويره يؤدي لتطوير عدد من الصناعات وإيجاد عدد من الخدمات التي تولد فرص عمل مجزية، خاصة مع التقدم في المستوى العلمي والمهني، وبسبب تراجع الفرص في قطاعات اقتصادية أخرى.

وفي عُمان، كانت الزراعة مع التجارة تشكلان أهم قطاعين في الاقتصاد العماني، لكنَّ مساهمة قطاع الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي تراجعتْ إلى مستوى هامشي؛ لأسباب كثيرة، ناتجة عن اكتشاف النفط والتغير الذي أحدثه في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إضافة للتغيرات المناخية التي أدت لتذبذب هطول الأمطار وانخفاض منسوب المياه الجوفية أو تملُّحها، وأسباب أخرى تتعلق بالزيادة السكانية وتغير أنماط الحياة. وفي الفترة بين منتصف ثمانينيات ومنتصف تسعينيات القرن الماضي، بذلت السلطنة جهودا كبيرة للنهوض بقطاع الزراعة، من قبيل إصلاح وصيانة الأفلاج، وإدخال نظم الري الحديثة، وتحسين الإرشاد الزراعي ونوعية المحاصيل، إلا أنَّ مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي لا تزال متدنية، وفي حدود 3% فقط. ويبلغ عدد العاملين في مهن الزراعة وتربية الحيوانات والرعي والصيد حوالي 87.9 ألف شخص، غالبيتهم العظمى من الوافدين؛ مما يعني أنه يُمكن خلق فرص عمل كثيرة للعمانيين للعمل في هذا القطاع، لو تمَّ مزيد من التحديث والميكنة. وفي الوقت الحاضر، تجري عدة محاولات لتحسين إنتاجية قطاع الزراعة؛ وذلك في إطار سياسة "الأمن الغذائي"، وقد أُنشئت عدة شركات لإنتاج أو ضمان توفير ما تحتاج إليه السلطنة من بعض المنتجات الزراعية والحيوانية.

إنَّ الاهتمامَ بالزراعة أمرٌ ينبغي الاستمرار فيه لأسباب كثيرة؛ منها أنَّ النهوض بهذا القطاع يُمكن أن يؤدي إلى قيام بعض الصناعات الجديدة التي تُسهم في تنويع الاقتصاد الوطني. ومن الأمثلة على الصناعات التي نشأت في عُمان، مُستفيدةً من التطور الذي حصل في قطاع الزراعة: صناعة أنظمة الري الحديثة ومستلزماتها؛ بما فيها من بيبات (أنابيب) وصمامات، وكذلك صناعة تجميع مضخات المياه، وصناعة تغليف وتعليب المنتجات الزراعية والصناعات المرتبطة بها. ولا شك أن استخدام التقانة الحديثة؛ مثل: الروبوتات والطائرات المسيرة في العمليات الزراعية؛ مثل: الحراثة أو التأبير والتلقيح أو الحصاد، سيزيد من إنتاجية القطاع بشكل كبير، وسيخلق في نفس الوقت فرصَ عمل للمواطنين في مختلف التخصصات، وسيقلل من اعتماد هذا القطاع على العمالة الوافدة.

وفي المقابل، هُناك تحديات كبيرة تواجه قطاع الزراعة وتحد من نموه، ولا يُمكن تجاوزها بسهولة نظراً للظروف البيئية والديموغرافية لبلد مثل عُمان؛ حيث المياه شحيحة والحرارة مرتفعة، كما أنَّ اتباع الطرق التقليدية في الزراعة يقلل من إقبال المواطنين على العمل فيها. لذلك؛ تتزايد الضغوط من بعض ملاك المزارع لتحويل الأراضي الزراعية إلى استخدامات أخرى. وبالنظر لتلك التحديات، فربما يكون من الأجدى اقتصاديًّا دعم الإنتاج الزراعي في الحيازات الصغيرة، أي في القرى والحجور التي تتميز بانقطاع سكانها للعمل في الزراعة، ويكون الهدف من ذلك سدّ حاجاتهم الأساسية منها؛ مثل: القمح، واللحوم، والخضراوات، ثم بيع الفائض عن حاجتهم في الأسواق القريبة.

وقد تمَّ مؤخراً تداول خبر عن أنَّ وزارة الإسكان والتخطيط والعمراني خصَّصت مساحات واسعة من الأراضي للأغراض الزراعية في ولاية نزوى، وأنَّه سيتم توزيعها على المواطنين. وإذا كان الخبر صحيحا فإنَّ ذلك سيعوض شيئا من التناقص المستمر في الأراضي الزراعية جراء التمدد العمراني أو بسبب العوامل البيئية. ومن المهم لتطوير الزراعة في المنطقة التي ستوزع فيها تلك المساحات قيام وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه بإنشاء نظام مركزي للري يشمل جميع القطع الزراعية الموزعة هناك، إضافة إلى تقديم الإرشاد الزراعي اللازم لها. كذلك من المفيد تكرار هذه الخطوة في مناطق أخرى، خاصة في القرى والحجور والأودية، وأنْ يتم مساعدة سكان تلك المناطق على إقامة سدود صغيرة للتغذية الجوفية واستصلاح الأراضي القريبة من السدود وفي مناطق أخرى؛ مثل تلك القريبة من سد وادي ضيقة في ولاية قريات. ومن أجل خلق فرص عمل للمواطنين، فإنَّه من المناسب كذلك تشجيع إقامة مؤسسات أو مكاتب لتقديم الخدمات الزراعية على مستوى القرية أو الولاية؛ مثل: خدمات ري المزروعات ورعايتها وحصادها، وأنْ لا يضطر أصحاب المزارع الصغيرة بشكل فردي إلى تحمُّل تكاليف تشغيل عمالة تزيد على حاجة العمل في مزارعهم.

وأخيرًا.. لا بد من الاهتمام بالتسويق الزراعي، وليس بالضرورة أن يكون ذلك بإنشاء مؤسسة تكون تكاليف إدارتها مرتفعة؛ الأمر الذي قد يؤدي لفشلها كما حدث في تجارب سابقة، ولكن يُمكن أن يكون بإنشاء أسواق مركزية على مستوى المدن وأسواق أصغر على مستوى القرى؛ بحيث تكون تلك الأسواق متخصصة في عرض وتسويق المنتجات الزراعية والحيوانية والحرفية. إنَّ وجُود أسواق متخصصة للمنتجات الزراعية والحرفية سيُساعد على تطوير قطاع الزراعة، وكذلك في الترويج لقطاع السياحة؛ حيث إن هذه الأسواق تعتبر أماكن جذب سياحي في كثير من البلدان حول العالم.

 

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

تعليق عبر الفيس بوك