الاستباقية والتفاعلية

فاطمة الحارثية

فقط المتمكِّن من يستطيع أن يُحقِّق الاستباقية، ويعلم إلى أين تأخذه الخطط والإستراتيجيات والأوضاع التي قد بُنيت في أي أمر كان.. الاستباقية ليست حكرًا على الحياة العملية، بل هي جزء مهم في كافة أوجه حياة الإنسان المختلفة؛ ففي يومك العادي، عندما تُبادر بصناعة اختلاف للأفضل أو تغيير ما، أو إيجاد حلٍّ لمُشكلة محتملة -أي لم تحدث بعد- قد تقي أحدَ أو بعضَ أفراد أسرتك من ضرر مُحتمل، بأن تكون قد استبقت السوء، وجنَّبت نفسك وأسرتك ضررا كان ليقع بسبب الإهمال، أو انتظار وقوعه للتفاعل معه، أو تصنع بيئة أو وضعًا أكثر راحة لهم.

مُعظم الاستباقيين لديهم مهارة التنظيم، والقدرة على الاستشراف، كما لديهم كم من الشجاعة والاقدام، مما يُساعدهم على صناعة حياة أكثر سلاما وأقل تعقيدا، إننا في جُل الأمر نفتقد تلك الفئة وليس لأنها غير موجودة، بل لأنَّ مُبادرتها أصبحت تُقلق الكثيرين؛ فغالبية الجُموع هم جماعات تُفضل الرتابة والكسل عن الجد والعمل، وتنظر إلى المبادرات كخطر قد يُعكر صفو الوضع الحالي، وتهديدا لكفاءاتها وسلطتهم ومكانتهم؛ فتترجم وتحوّل مقترحات الاستباقيي، ومبادراتهم على أنها تهويل وتضخيم للأمور، وأن لا خطر حقيقيًّا أو خللًا قد يحدث على المدى القصير، كلها سلوكيات تحكمها المصالح، مما أضحى فتح الباب للصالح العام الحقيقي مساسا وخطرًا على مصالح فردية حزبية، أضف إلى ذلك حُمى إثبات الذات، التي أصيب بها معظم المسؤولين، وانتشرت بين عموم الموظفين، وكأنَّ القدر مرهون بخيالهم المُنهك سعيا وراء الحياة الدنيا والسلطة وإثبات الوجود.

... إنَّ الوقوفَ ساعة وتأمُّل ما حدث لمن كان على كُرسيك قبلك، لسوف يُسكن النفس ويُثبت العقل، ويُوجد التركيز للعمل النافع، ويمنح كل مُدرك الوعي اللازم للتركيز لفهم قدرات الناس المختلفة، وكيفية استثمار المعطيات المتاحة على أحسن وجه، أعمارنا لا يمكنها أن تتجاوز قدرها المحتوم، لكن عقولنا وأفكارنا وأعمالنا لها أن تعيش أعواما وقرونا، وربما تُخلّد. إن العمل الصالح أو الفعل الطيب لا يحتاج إلى تزكية أو ثناء أو مديح أو تضخيم أو حتى أي ضجيج من الناس، فحسبه حُسن النتائج وعموم الفائدة ودعاء الرضا ليُعرف؛ في أثناء انشغال البعض بحل أزمات اليوم، وهم جماعة "المتفاعلين"، واشتغالهم في نزع راحة الأمة بحلول شائكة، نجد غيرنا وهم يحلقون بين اليوم والغد، من أجل رخاء من في الحاضر على رأس الحياة ومن في المستقبل قادم.

نحن لم نتأخَّر في فرض كل هذه المنغصات، حتى تأتي على المواطن بالجملة ودفعة واحدة، ولن يقف العالم إذا ما تمَّ تدريجها ومواءمتها، حتى يستطيع المواطن أن يتأقلم ويُرتب وضعه معها بيُسر، وتأجيل الأقساط ليس ترفا بقدر ما هو تأخير مؤرِّق لا يحل شيئا، بل يمد من عمر أزمة القروض على كاهل المواطن، ولا أكاد أفقه ماهية صرف تدريب على رأس العمل، فما نفع كل تلك المبالغ التي صُرفت لاثنى عشر عاما بين أروقة المدارس وخمسة أعوام جامعية، هل هو مال مهدور حتى تبقى الرعوية بعد ذلك؟ ويستمر الإنفاق في التدريب على رأس العمل، أوليس هذا الحال هو الذي يُؤزم ويُثقل الموازنات؟ لماذا لا حلول حقيقية؟ أعمار وأموال تُهدر لتُؤجل من عمر المواطن في النهوض بواجباته، وليستعين البعض بالأجانب، ممن لا اختلاف بينهم وبين المواطن، فالأجنبي إنسان وليس مُعجزة ولديه قدرات وإمكانيات محددة كالمواطن، لكن يُعطى الثقة، ولا يُناقش أحد مسألة وجوب تأهيله أو تدريبه، أو موضوع أنه ربما لا يستطيع تحمل مسؤولية تلك المهام أو أدائها، والأكثر مرارة أنَّ المواطن ذاته هو من يُدربه ويُسلمه المهام والمسؤوليات عند التحاقه بالعمل سواء الميداني أو الإداري.

نعم.. يُؤثر الحال على الجميع دون استثناء؛ فالكل يأتي باحتياجاته من ذات المصب والمصدر؛ بيد أن الحال يختلف والأثر ليس متساويا، فهناك من لا يشعر بتلك المتغيرات لأنه ميسور الحال، ويبلغ عند البعض استشعار أنه يدعم ويتصدق للحكومة. وفي المقابل، نجد أن الأثر كبير على معظم الناس وأغلبهم، سواء المواطن البسيط أو الوافد العامل، وهذا ناقوس خطر، قد يسبب الجوع والفاقة والحاجة، ممن قد يؤدي إلى تفشي الجريمة والفساد؛ فوجب التنبه والتنبيه. 

--------------------

سمو...

"ليس ثمة جنة على أرضٍ أثقلها الناس بالذنوب والعُقد، فجنة الله لا مسؤولين ولا سلطويين ولا جباة ولا ذل ولا ضرائب ولا استثناءات ولا... عليها أو فيها، كفاكم سعيا وراء ضجيج الثناء على الأرض وأعطوا أهل السماء مساحة لربما أثنوا على بعضكم.