"كوفيد 19" بين التسييس والجشع

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي *

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

يختلف وباء "كوفيد 19" عن غيره من الأوبئة التي ظهرت في العقدين السابقين من الألفية الحالية، مثل إيبولا وحمى الخنازير وحمى الطيور؛ حيث إنَّ "كوفيد 19" كان شرسا وسريع الانتشار، وقد ازداد قبحاً وضراوة حين أُلبس منذ بدايته لبوس السياسة ثم لبوس الجشع. فما إنْ ظهر "كوفيد 19" في الصين في أواخر عام 2019، وبدأ المهتمون بالأوبئة والأدوية تتبُّعه ومعرفة أسباب تفشيه، ومن بينهم منظمة الصحة العالمية وكذلك مؤسس مايكروسوفت بيل جيتس، حتى انبرى المتصيدون والمنتفعون من عالم السياسة بكيل الاتهامات لمنظمة الصحة العالمية بالتقصير في التحذير من انتشار الوباء، كما قام آخرون "لغرض في نفس يعقوب" بيل جيتس، متهمين إياه بأنه شارك عن طريق صندوقه الخيري في تمويل تصنيع الفيروس الذي حمل هذا الوباء؛ وذلك دون دليل قاطع لديهم، وإنما عن جهالة ولمجرد أنه حذر من انتشار أوبئة أخرى في المستقبل. وقد انضمَّ إلى الذين اتهموا بيل جيتس جوقة من العالم العربي، ممن ينطبق عليهم وصف أبي الطيب المتنبي لكافور الإخشيدي بأنهم "عاجزون عن الجميل". ولعمري إنهم كذلك لأنهم ليسوا قادرين على قول أو فعل أي شيء إلا التذمر والشح، فهم لا يرغبون في تقديم العون لمراكز البحث التي تطور الأدوية ولا لإسهام بما يعين الناس على الوقاية من الأوبئة، تاركين ذلك لغيرهم من أهل الشيم والسخاء، وكأنه ينطبق عليهم قول آخر لأبي الطيب المتنبي:

"دعِ المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي".

وقد ازداد الموضوع تسييساً وخروجا عن العلمية والموضوعية حين وصف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الوباء "بالفيروس الصيني  China Virus" ثم تبعه انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من منظمة الصحة العالمية، متهمة المنظمة بعدم التحذير من انتشار الوباء كما يجب، وأنها كانت تجامل الصين وتتستر على أسباب بدئه وانتشاره فيها. وإضافة إلى ذلك، جعل الكيان الصهوني "كوفيد 19" ساحة جديدة لأعماله الاستخبارية، فقد ورد في الأخبار أن جهاز الموساد "الإسرائيلي" قام في الأشهر الأولى من انتشار المرض بنشاط واسع في مجال تقديم أدوات الفحص والمستلزمات الصحية التي تخفف من أعراض الوباء للدول التي اعتبرتها "إسرائيل" من أصدقائها أو حلفائها.

وبعد فترة وجيزة من تفشي الوباء، بدأت بعض  الدول محاولات حثيثة للبحث عن الوسائل التي تقي منه وتحد من انتشاره، فقام بعضها بتسهيل استيراد المستلزمات الطبية والصحية اللازمة للحد من تفشيه، فيما قامت دول أخرى بتوجيه مراكز البحث والمصانع فيها لإنتاج اللِقاحات وتصنيعها. وما هي إلا أشهر قليلة حتى أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجاح بلاده في إنتاج لقاح، وأن ذلك اللِقاح دخل المرحلة النهائية من التجارب عليه. وبعد روسيا توصلت كل من أمريكا وبريطانيا والصين وكذلك كوبا إلى لِقاحات أخرى مشابهة. وحتى كتابة هذا المقال، هناك خمسة أنواع من اللِقاحات يجري استخدامها ضد هذا الوباء، بعضها تم التوصل اليها نتيجة تعاون مشترك بين أكثر من شركة من شركات صنع الأدوية في أكثر من دولة.  وإذا جاز إعطاء كل لِقاح من تلك اللِقاحات جنسية دولة ما فهي: فايزر الأمريكي، واسترازينيكا البريطاني، وسبوتينيك الروسي، وسينوفارم الصيني، وجونسون وجونسون الأمريكي، وسوبيرانا الكوبي.

ويبرُز إلى الساحة الإعلامية لِقاح إسترازينيكا بصفته اللِقاح الذي يبدو أنه الأكثر استخداما في العالم، وكذلك بسبب الجدل الدائر حول أعراضه الجانبية، بينما ينحصر استخدام لقاح فايزر في أمريكا ولم تسمح حتى الآن بتصدير كميات كبيرة منه إلى خارجها؛ بذريعة أن الأولوية هي لتلقيح الأمريكيين. أما اللِقاح الروسي والصيني؛ فرغم استخدامهما في عدد من البلدان، إلا أن الأخبار المتناقلة عنهما قليلة، سواء كانت سلبية أو إيجابية، دعك عن اللِقاح الكوبي الذي بدأ استخدامه في بعض الدول الإفريقية.

واضح أنه كما تمَّ تسييس الحديث عن أسباب ومصدر انتشار "كوفيد 19"، فإنه يتم حاليا تسييس نوع اللِقاح وحق الدول في الحصول عليه؛ حيث أصبح طلبه وعرضه خاضع للُعَب السياسية والقرصنة. وتزداد الحالة سوءً بسبب جشع المنتجين له الذين يفرضون أسعاراً هدفها زيادة أرباحهم ورفع أسعار أسهم شركاتهم في أسواق المال، وكذلك تدخل السمارة والقراصنة والوسطاء بطرق ملتوية؛ مما يؤدي إلى مزيد من التكاليف دون مراعاة لمقدرة الدول أو عامة الناس على شرائه. ومن جهتها، تستمر "إسرائيل" في جعل "كوفيد 19" ولِقاحاته ساحة من ساحات أجهزة استخباراتها، وإلا فما معنى أن تتمكن من الحصول على كميات كافية منه لتلقيح كل من يحتاج لتلقيح من سكانها لو لم يكن للموساد دور في تلقفه أو قرصنته من منتجيه وربما التحكم في بيعه وتوزيعه، علما بأنَّ اللقاح المستخدم فيها مستورد من الخارج، ولم تعلن أنها أنتجت لِقاحاً بداخلها. هذا في وقت تعرقل فيه توصيل اللِقاح إلى الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة.

تسييس مواضيع الدواء ليس بجديد في العالم العربي، فتحتَ ذلك العنوان المقيت: "النفط مقابل الغذاء والدواء"، مات أو قُتل أكثر من نصف مليون طفل عراقي خلال الفترة من 1990 إلى عام 2003. وعندما سُئلتْ مادلين أولبرايت Madeleine Albright مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة حين ذلك، إن كانت تعرف عن عدد من ماتوا من الأطفال العراقيين بسبب الحصار المفروض على بلادهم، والمساومة على حقهم في الحياة، كان ردها: "نعم ذلك يستحق yes it worth”، أي أنَّ وفاة أكثر من نصف مليون طفل عراقي مبررٌ في سبيل الغاية التي حققتها أمريكا في العراق.

ما نشهدُه حالياً من تسييس وقرصنة للِقاح "كوفيد 19"، وكذلك المأساة التي مرّ بها العراق، ولا يزال يعاني منها، هي من أهم الدروس في عالم السياسة، بل من أهم الدروس في سبيل الحياة. وإذا كان الكثير من الناس من مختلف التوجهات يؤكدون على أهمية "الأمن الغذائي"، وهم على حق في ذلك، فإن "الأمن الدوائي" لا يقل أهمية عنه، إن لم يكن أهم، حيث إنَّ مصادر الحصول على الغذاء أكثر وأسهل بكثير من مصادر الحصول على الدواء، وتكلفة شراء حبة أو حقنة دواء قد تزيد عن تكلفة شراء عشرات أو مئات الأكياس من الأرز أو الطحين أو السكر. لذلك؛ فلا مجال إلا الأخذ بأسباب العلم والتقدم، وإنشاء مراكز للبحث والتطوير تستطيع إيجاد العلاج للأمراض المستجدة، سواء عملت تلك المراكز بمفردها أو بالتعاون مع مراكز أخرى كما هو حاصل بين كثير من مراكز البحث حول العالم، وإنتاج ما نحتاجه من أدوية سواء كانت لعلاج الأمراض أم للوقاية منها.

تعليق عبر الفيس بوك