فكر السلطان قابوس وانعكاسه على المجتمع

د. أحلام الجهورية
إنَّ قراءة عميقة ومتأنية لصورة عُمان الحديثة القوية الموحَّدة اليوم، توضح الجهود الكبيرة التي بذلها السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- في سبيل أن يكون هذا المجتمع قوياً ومنسجماً ومتحداً، فنظرته -رحمه الله- الشمولية لهذا المجتمع لم تكن تقبل أن تكون هناك أية تجزئة لمكوناته؛ لا من ناحية القبيلة، أو المذهب، أو العرق، أو النوع، ولم يكن لهذا الانسجام أن يكون لولا هذا الفكر العميق والشامل من السلطان الشاب الذي بالرغم من صغر سنه (تولى الحكم وهو يبلغ من العمر 29 عاماً) كان شمولي النظرة لعُمان الحديثة.
انطلق السلطان قابوس -طيّب الله ثراه- في بناء عُمان الحديثة من خلال رؤية عميقة قائمة على مجموعة من المرتكزات؛ لعلَّ أهمها: المجتمع العُماني كمكون رئيس ومُنطَلَق أصيل في الوصول إلى عُمان الحديثة التي نستظل اليوم بظلها وننعم بخيراتها. واستطاع فكر السلطان قابوس المتشرِب بقيم المجتمع العُماني من خلال فهمه العميق لمكونات هذا المجتمع المتمثلة في الدين الإسلامي واللغة العربية والتاريخ، والثقافة المتنوعة القائمة على: التنوع المذهبي، واللغوي، والسكاني، والبيئي، الذي أكسب هذا المجتمع خصوصية وهُوية متفردة انعكست على قيّم وعادات وتقاليد المجتمع العُماني.
وتُرْجِم هذا الفكر الاجتماعي لدى السلطان الراحل من خلال خطاباته السامية التي توجّه بها إلى شعبه، والتي كانت أساساً نظريًّا لهذا الفكر، تبعه في الوقت ذاته إجراءات عملية من خلال منظومة القوانين والتشريعات التي قامت على أساسه، ومن نماذج خطاباته التي توضح فكره، مثلا في خطاب العيد الوطني الثاني في 18 نوفمبر 1972، يقول: "كان لزاماً علينا أن نبدأ من الأساس ومن واقعنا، وهذا الأساس هو الشعب في عُمان" . هنا عبَّر السلطان الراحل عن المجتمع واختصره في كلمة "الشعب في عُمان". وفي خطابه في العيد الوطني الثالث في 18 نوفمبر 1973، يقول: "إن الجميع في هذا الوطن سواسية لا فرق بين صغير وكبير، وغني وفقير؛ فالمساواة تفرض أنْ يكون الكل أخوة في ظل العدالة الاجتماعية الإسلامية" . وهنا يؤكد على العدالة الاجتماعية المستمدة من الدين الإسلامي كمكون رئيس لهذا المجتمع. وفي خطاب العيد الوطني الرابع في 18 نوفمبر 1974، قال: "... فالإنسان هو صانع التنمية، فيجب أن يكون هدفها إسعاده وإعداده" ، وهنا لخَّص السلطان الراحل هدف عُمان الحديثة المتجسد في مجتمعها، وطاقته وسلاحه المتمثل في الانسان كوسيلة وغاية وأساس للبناء الاجتماعي. وفي هذا الخطاب أيضاً، أكد على قيم المجتمع التي ينطلق منها، فقال: "إن قيم مجتمعنا عموماً، وعلاقتنا بالعالم الخارجي كل هذه وغيرها من جوانب حياتنا نتناولها بفكر واع متفتح" . وفي خطاب إلى الشعب في 26 نوفمبر 1975، قال: "إن المجتمعات لا تتطور إلا إذا كانت هناك رعاية اجتماعية قائمة على الدراسات العملية" . وفي ذات الخطاب أكد: "من المفهوم أن الناس سواسية كما علمنا ديننا، وإنه لا فرق بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم" . وفي خطاب العيد الوطني السادس في 18 نوفمبر 1976، أكد على "شعور كل مواطن بالمسؤولية" ، وهذه القيمة التي أراد تكريسها بعيداً عن أية انتماءات أخرى، فالانتماء لعُمان فقط.
لقد استطاع السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- ترجمة ما آمن به وما أراده لهذا المجتمع من خلال التأكيد على مرتكزات المجتمع الرئيسة التي لا يمكن المساس بها؛ وهي: الدين واللغة والموروث الحضاري. وتحقيق أهداف أفراد المجتمع منطلقاً من قيمه الأصيلة: العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وإعادة توجيه وتشكيل بعض قيّم المجتمع بما يخدم عُمان الحديثة من خلال اذابة كل الانتماءات القبلية والعرقية والمذهبية ليكون انتماء الجميع لعُمان فقط وهو ما تحقق بكثير من الجهد والصبر. كما عمل -طيب الله ثراه- على ترسيخ بعض القيم الأصيلة في المجتمع لتستمر في دورها بتواؤم وانسجام مع معطيات العصر الحالي كقيمة العمل التطوعي والتسامح والتعايش، وتعزيز أدوار كل فئات المجتمع العمرية (الأطفال/ الشباب/ كبار السن)، وفئات المجتمع النوعية (الرجل/ المرأة)؛ وهو ما قامت عليه المشاريع المختلفة في الجوانب التعليمية والصحية والاقتصادية. وانعكس الفكر الاجتماعي للسلطان قابوس في النظام الأساسي للدولة (الدستور) من خلال المبادئ الاجتماعية التي تضمنها، وهذه المبادئ متمثلة في :
- العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين العُمانيين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة.
- التعاضد والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، وتعزيز الوحدة الوطنية واجب. وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفرقة أو الفتنة أو المساس بالوحدة الوطنية.
- الأسرة أساس المجتمع، وينظم القانون وسائل حمايتها، والحفاظ على كيانها الشرعي، وتقوية أواصرها وقيمها، ورعاية أفرادها وتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم.
- تكفل الدولة للمواطن وأسرته المعونة في حالة الطوارئ والمرض والعجز والشيخوخة، وفقاً لنظام الضمان الاجتماعي، وتعمل على تضامن المجتمع في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة.
- تُعنى الدولة بالصحة العامة وبوسائل الوقاية والعلاج من الأمراض والأوبئة، وتسعى لتوفير الرعاية الصحية لكل مواطن، وتشجع على إنشاء المستشفيات والمستوصفات ودور العلاج الخاصة بإشراف من الدولة ووفقاً للقواعد التي يحددها القانون. كما تعمل على المحافظة على البيئة وحمايتها ومنع التلوث عنها.
- تسن الدولة القوانين التي تحمي العامل وصاحب العمل وتنظم العلاقة بينهما. ولكل مواطن الحق في ممارسة العمل الذي يختاره لنفسه في حدود القانون. ولا يجوز فرض أي عمل إجباري على أحد إلا بمقتضى قانون وأداء خدمة عامة وبمقابل أجر عادل.
- الوظائف العامة خدمة وطنية تناط بالقائمين بها، ويستهدف موظفو الدولة في أداء وظائفهم المصلحة العامة وخدمة المجتمع. والمواطنون متساوون في تولي الوظائف العامة وفقاً للشروط التي يقررها القانون.
لقد أثّر فكر السلطان الراحل -طيب الله ثراه- على المجتمع العُماني سلوكاً وثقافةً وبناءً مؤسسياً، من خلال مبدأ جلالته المستند على الأصالة والمعاصرة؛ وهو ما أعطى لعُمان هُوية وخصوصية متفردة؛ فحالة السلم والسلام المجتمعي في عُمان لم تكن وليدة الصدفة ولم تكن سهلة المنال، إنما جاءت وبُعثت من جديد من خلال الفهم العميق والشامل للسلطان قابوس لطبيعة المجتمع العُماني ومكوناته الثقافية والحضارية. فخلال 50 عاماً من الجهد والعطاء استطاع السلطان قابوس إيجاد بناء اجتماعي مستدام قابل للتطور عبْر التجربة والممارسة، من خلال العلاقات المستقرة في المجتمع العُماني ومبدأ الاستمرارية؛ حيث كان هدف السلطان قابوس: "بناء مجتمع عُماني يحتفظ لعدة أجيال بثبات الهياكل وأنماط العلاقات السائدة بين الأفراد؛ وذلك عبر تأسيس مجتمع تتوافر فيه مقومات التطور، واستلهم هذه الهياكل التي تدار بها الدولة من الإسلام والتراث العُماني، وقام بتطويرها لتتناسب مع عُمان، واستطاع غرس مفهوم التسامح والتضحية من أجل الوطن" .
وختامًا.. إنَّ ما قام به السلطان الراحل -رحمه الله- من جهود عكست فكره الاجتماعي والتي من خلالها يمكن أن نطلق عليه لقب "المُصلح الاجتماعي"  لنجاحه في تحقيق: الثقة والالتفاف حول القيادة المتمثلة في شخصه -طيّب الله ثراه- والعدالة الاجتماعية المتمثلة في الأقتسام العادل للثروة والسلطة، والانتماء الوطني الخالص لعُمان.
-----------------------------
المراجع:
1.    الكتاب الأبيض (النظام الأساسي للدولة) الصادر في 6 نوفمبر 1996.
2.    بليخانوف، سرجي. "مصلح على العرش.. قابوس بن سعيد سلطان عُمان". ترجمة: خيري الضامن، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة: 2004م.
3.    همَّت، عبدالمنعم. "البناء الاجتماعي في فكر السلطان قابوس". مقال منشور في جريدة الرؤية، 30 نوفمبر 2015م.
4.    وزارة الإعلام، "كلمات وخطب صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد". وزارة الإعلام، مسقط: 2010م.

تعليق عبر الفيس بوك