علي الرئيسي *
مفهوم اقتصاد الثقافة نال اهتماما متزايدا في الفترة الأخيرة، ورغم التحديات التي يواجهها هذا النوع من الاقتصاد، خاصة في ضوء صعوبة الإحصائيات المتوفرة وكيفية احتساب مساهمته في الدخل القومي. غير أنَّ التغيرات المتسارعة بالنسبة للصناعات والقطاعات الثقافية المختلفة؛ مثل: الوسائط السمعية والبصرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتسجيلات والتكنولوجيا الرقمية، والسياحة، لها تأثير متزايد على هذه الصناعة.
إنَّ التحول السريع لبعض المجتمعات بالنسبة للإلكترونيات والثقافة الافتراضية والرقمية قد أدى إلى ديناميات معينة، وبالذات بالنسبة للثقافة الجديدة التي استطاعت أن تخلق نظم ابتكار، أدوات، منتجات، وخدمات متنوعة. الكثير من الدول حققت فوائد كبيرة من اقتصاد الثقافة من خلال التوظيف الجيد لخريطتها الثقافية؛ فتقدر عائدات الاقتصاد الثقافي بحوالي 5 بالمائة من الدخل القومي في الدول المتقدمة بينما هذه المساهمة لا تزال دون المستوى المطلوب في الدول النامية.
وأهم العناوين التي يشملها اقتصاد الثقافة هي: التراث الثقافي، والفن، والإعلام (مثل: السينما، والإذاعة، والتليفزيون، والموسيقى، والصحافة، وطباعة الكتب)، والخدمات الإبداعية (مثل: التصميم، والإعلان، والإعلام الجديد، والتصميم المعماري، والبرمجيات). كل هذه سلع وخدمات ثقافية تشكل اقتصاد الثقافة، وتتفاعل مع صناعات أخرى، هذا التفاعل له تأثير على عمليات التطوير وذلك بخلق قيمة مضافة في الاقتصاد عن طريق التأثير المضاعف. والصناعة الثقافية أو الصناعة الإبداعية ذات تأثير كبير على الاقتصاد، وذلك عن طريق خلق فرص عمل وزيادة في الصادرات. وفي المقابل، فإن السياحة، والمنسوجات، والمصوغات، وصناعة الدمى، والموردين الآخرين يولون أهمية كبيرة لتنمية هذه الصناعات؛ وذلك عن طريق خلق التأثير الاقتصادي غير المباشر. كما أنَّ المنتجات الثقافية هي أحد الروافد المهمة في صناعة تكنولوجيا الاتصال والإعلام.
كثيرٌ من المجتمعات استطاعت خلق فرص عمل، وتحقيق دخل عن طريق استثمار موروثها الثقافي؛ فلم يعد يُنظر إلى الثقافة على أنها موضوع هامشي أو نخبوي، وإنما تقع في صميم الصيرورة الاقتصادية ومرتبطة بعملية الإبداع والإنتاج، وأن تكون الثقافة رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتتمتَّع عُمان بتنوع موروثها الثقافي والحضاري هذا إلى جانب التراث الأدبي والفني الغني. لذلك؛ لابد من إيجاد ديناميات مرتبطة بالتعبيرات والأنشطة الثقافية، المادية وغير المادية؛ وذلك عبر إستراتيجيات إنتاج وتوزيع وتعميم الخدمات الثقافية.
وتُشير الباحثتان العمانيتان جليلة الغافرية وزيانة أمبوسعيدية، في بحثيهما المنشورين في كتاب "الاستثمار في الثقافة"، الصادر عن النادي الثقافي، إلى أنَّ الثقافة ذات قيمة اقتصادية عالية، يتجلَّي فيها إحياء مهن ترتبط بالثقافة المادية وغير المادية، وفي توفير فرص عمل، لافتين إلى الدور الكبير الذي تلعبه الثقافة في جلب المستثمرين إلى مدن المركز، ومضاعفة الاهتمام بدور الثقافة في سياسات التنمية.
وتذكُر رندة عطية "أنَّ شريحة كبيرة من المثقفين يرون أن الثقافة كمفهوم لها علاقة بالاقتصاد بثلاثة أبعاد؛ الأول: الاقتصاد الثقافي وهو الذي يتعامل مع المنتج الثقافي كسلعة أو خدمة، والثاني: ثقافة الاقتصاد وهو الذي يتعامل مع السلوك كمؤثر على الاقتصاد، والثالث: الاقتصاد الإبداعي وهو الذي يتعامل مع الأفكار الإبداعية في الاقتصاد بهدف تحسينه أو بناء أنواع جديدة من المؤسسات لم تكن معروفة من قبل" - نون بوست.
ويتخوف العديد من المثقفين من عملية تسليع الثقافة، ولكن في الحقيقة لم تعد الثقافة عملا فكريا مجردا تقوم بإنتاجه لتحقيق المتعة العقلية، وليست ترفا فكريا تهتم به النخب؛ بل إنَّ الثقافة بمعناها الواسع هي جزء من نشاط واسع ومنظم يقوم به أفراد وجهات عديدة لتحقيق التأثير المطلوب في البناء الاجتماعي والتربوي والتعليمي والقيمي في المجتمع، والأخذ بالتحولات الحديثة في إنتاج المعرفة من حيث التكنولوجيا والرقمنة.
لذلك؛ لا بُد من إيجاد إستراتيجية وطنية للنهوض باقتصاد الثقافة، وذلك من أجل تنمية اقتصادية متنوعة ومستدامة. ولِتَكون الثقافة رافدا اقتصاديا مهما، فلابد من إيجاد إستراتيجية للنهوض بالاقتصاد الثقافي مع آليات عمل وتحديد أهداف واضحة مع مؤشرات كمية قابلة للقياس والتحقق. كما أن الثقافة أو اقتصاد الثقافة لِيزدَهر، فإنه بحاجة لبنية مؤسسية متطورة، ومناخ من الحريات بعيدا عن التابوهات المقيدة، ومجتمع مدني مستقل.
* باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية