أيام بين شيكاغو وباريس! (2-2)

عبدالله العليان

استكمالا لما ذكرناه في المقال السابق، نواصل تسليط الضوء على كتاب المفكر والأكاديمي الدكتور محمد حامد الأحمري المعنون بـ"أيام بين شيكاغو وباريس"؛ حيث يروي الأحمري قصة وصوله العاصمة الفرنسية باريس (مطار شارل ديجول)، فيقول: "في مطار شارل دیجول في باریس، كان الدخول سهلًا وبلا عُقد أو تفتیش، واستقبلني عند الباب مُمثل للمنظمة العربیة لحقوق الإنسان. انطلقنا في طریقنا للمدینة في صباح بارد، والتقیت بممثل المنظمة الذي ذهب بي إلى فندق "إيبيس"، وحدَّثني عن منع السفارة الفرنسیة عددًا من ضیوف المؤتمر من المجيء. وهناك قابلنا عددًا من العرب الذین وفدوا للمؤتمر، منهم عبدالرزاق الشایجي وولید الطبطبائي من الكویت، وفرحت للقائهما بعد نحو ثلاثة أعوام، ولقینا آخرین تعرفنا علیهم من بلدان أخرى".

كانت الندوة عن حقوق الإنسان، أعدتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ونُوقشت فيها هذه المضايقات التي يتعرض لها العرب والمسلمون بعد أحداث سبتمبر، لكن الندوة عرّجت إلى قضايا سياسية وفكرية أخرى بعيدة عن العنوان، وهذه كحال العديد من الندوات العربية في الأزمات والتوترات! ثم تمَّت الدعوة لحضور ندوة أخرى، في جامعة السربون الثالثة، مركز دراسات الشرق الأوسط، وتحدث فيها -د. الأحمري- وآخرون، فيقول: "تحدثتُ في هذه الندوة عن المسلمین في أمریكا، وتعرضت بإیجاز لتاریخهم وأنماط هجرتهم، وبعض المحن التي تعرضوا لها. ثم تحدثت عن آثار ما حدث علیهم. ومما أشرتُ إلیه أن ذلك سبّب -ولا یزال- انقطاعًا بین المسلمین وبیئاتهم وفكرهم وأقاربهم في العالم، وأنَّ نأي أمریكا یزیدها غُربة وبُعدًا في المواقف؛ فالغربة فیها غُربتان. والبُعد عن العالم سبَّب بُعدًا في فهمه، وصعوبة في التعامل معه. وهذا الوضع الصعب أنتج جماعة الوسطاء أو المفسرین لعالم الإسلام والمسلمین الذین یعرفون، أو یدعون، ویستغلون جهل الأمریكي العادي بما دار ویدور، وهذه المجموعة هي مجموعة الیهود، الذین تولوا تفسیر اللغز الصعب "الإسلام"، وتفسیر ثقافته، وتأویل ما یدور وفق مصالحهم".

ثم يضيف د. الأحمري، أنه وجد فرصة لزيارة قصر فرساي الشهير، وهو أحد المعالم المهمة في فرنسا، فيقول: "ورغم القراءة عن هذه الموقع، فإن القراءة تذهب بعیدًا یوم تعرضها على الواقع. ولم یجد رفیقا سفري عندي من معلومات ذات بال عن القصر، ولم أجرؤ أن أقول إنني درست تاریخ الثورة الفرنسیة لمدة فصلین دراسیین في الدراسات العلیا، على ید مؤلف قاموس الثورة الفرنسیة وواحد من أبرز علماء تلك الحقبة، ولن أنسى سعة علمه وتمكنه من كل صغیر وكبیر یتعلق بالثورة. ولأنَّ المعلومات المهمة والمفیدة كانت غائبة أو معدومة، فقد استأجرنا الدلیل الصوتي، وهو عبارة عن جهاز تَضَع سماعته في الأذن أو تضعه على الأذن كالهاتف، وكلما مرَرَت بغرفة أو قاعة في القصر تضرب على الرقم فتأتیك مادة مسجلة عن الغرفة أو القاعة، ومعلومات عن وظیفتها وتاریخ بنائها وقصة ساكنیها، وتعریف بالرسامین الذین رسموا لوحاتها".

ويسردُ الأحمري انطباعاته عن باريس ومعالمها الأثرية والتاريخية، فيقول: "وفي نقاشاتنا ونحن عائدون من قصر فرساي، وبعد زیارة المتحف الحربي، كان یشغلنا أمر واحد، وهو أن هذه المدینة الغربیة التي نزُور آثارها القدیمة، والتي تمت مبانیها في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وبدایة القرن العشرین، هي آثار قدیمة یتجولون فیها كما نفعل نحن، یتأمَّلون بقیة لنظام قدیم ولَّى زمنه وأهله، وقوة لم تعد موجودة، فأوروبا منذ أنقذتها أمریكا من الحرب الأهلیة الثانیة فیها لم تعد تعطي شیئًا للعالم، سوى بقیة المهارات التي تبقى بأیدي المهرة الیدویین، وبقایا الحفاظ على النفس، وقد أوكلت حمایة نفسها لأمریكا، حتى في مشكلة البلقان ویوغُسلافیا لم تكن أوروبا قادرة على فعل شيء".

العديدُ من الناس عندما يسمع عن الغرب وحضارته، ورؤيته الفكرية التي ألهمت هذه الحضارة يتفاجأ البعض عندما يزور بعض مدنها ومعالمها الأساسية، يذكر الأحمري قصة عن حضارة الغرب عن لسان أحدهم؛ فيقول:"أذكر حدیثًا دار بیننا وبین شیخ فاضل كان یزور لأول مرة بلدًا غربیا (لندن)، فخرج من مقر سكنه إلى الشارع وسار یمینًا لمسافة، ولم یر الملامح الحضاریة التي یتحدث الناس عنها، ثم سار شمالًا لمسافة طویلة ورجع ورفع صوته فینا قائلًا: أین الحضارة الغربیة التي یتحدثون عنها؟ من مطار هیثرو إلى هنا ومن جهات المبنى كلها ذهبت مسافات ولم أر شیئًا. هل نحن في مكان مختلف أم لندن كلها كذلك؟ قلنا: بل هذه هي لندن".

ويختتم د. الأحمري في هذا الكتاب رحلته القصيرة، وماذا في ذهن رفيقه في الرحلة، فيقول: "ذكر لي رفیق رحلتي أنَّه سیكتب عن الرحلة نفسها فرحت برحلته؛ لأنها ستكون رحلة جدیدة، والمكان والدروب التي جمعتنا قد لا تكون جمعت جمیع مشاعرنا. ولهذا فرحلته ربما لم أعرفها، ولم أشاركه فیها أحاسیسه واهتماماته، وقد تكون رأت عینه غیر ما رأیت، أو رأت فیه غیر الذي رأیت. إنَّ رحلته غیر رحلتي. ویوم كتب رحالة عن الدنمارك وهجاها، وهجا أرضها وسماءها وأهلها، وكان من قبل قد مدحها غیره، فردَّ علیه الطیب صالح بكلام من نحو قوله: "یا زول، إنك لم تزرها في شرخ شبابك وإقبال مالك واتساع زمانك".

هذه المدن التي كتبتُ لك عنها هنا، قد سبق ومررتُ علیها مرارًا من قبل، ولكنَّ الذي رآها آنذاك غیر هذا الذي یكتب عنها الآن، والزمان غیر الزمان، والمشاعر مختلفة، ورفاق الطریق لا یعودون في كل رحلة". نعم، لكل شخص نظرته ورؤيته وانطباعاته، والتحولات والتغيرات، لا تجعل النظرة الشخصية ثابتة بين زمن وآخر، وتلك سُنَّة الله في خلقه: "ولن تجد لسنة الله تبديلا".