أمريكا بين حقبتين (2)

محمد بن سالم البطاشي

قبيل التصديق على نتائج الانتخابات، حشد كل طرف قواه في مواجهة الآخر، وماجت الساحة الإعلامية بالتحاليل المرتبكة والمتناقضة، وأصبح الصخب عاليا، وصوت العقل خافتا، واقتحم مؤيدون للرئيس السابق دونالد ترامب مجلس النواب يوم الأربعاء 6 يناير، وجلسة التصويت- على نتائج الانتخابات- منعقدة، وهو الحدث الذي هز أمريكا من أدناها إلى أقصاها، ومثل سابقة في التاريخ الأمريكي، وبدى الموقف مليئا بالتوتر والترقب وربما الخوف من قادم الأيام، مما أعطى حفل تنصيب الرئيس جوزيف روبينيت بايدن ميزة استثنائية تابعته وسائل الإعلام العالمية بشغف شديد، وزاد من تلك الإثارة مقاطعة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لحفل التنصيب سابقة لم تحدث منذ قرن ونصف، واختصار عدد الحضور- بفعل جائحة كوفيد-19.

جاء بايدن إلى سدة الحكم وأمامه تركة ثقيلة خلفتها أربعة أعوام استثنائية، وكان الرئيس الجديد قد استعد لها باختيار أعضاء حكومته من الخبراء المتمرسين، الذين عملوا في فترة سلفه الديمقراطي باراك أوباما، وهذا أمر في غاية الأهمية من أجل تصحيح المسار. وسنعرج في هذا المقال على بعض الملفات الضاغطة، مستعرضين - في عجالة - ما أنجزته هذه الإدارة منذ توليها زمام الأمور في 21 يناير 2021

أولا: السياسة الداخلية

أ- السلم الاجتماعي

حرصت الإدارة الجديدة على إعادة اللحمة وبناء الثقة، وتجسير الهوة بين جناحي الأمة المنقسمة على نفسها، وذلك من خلال إجراءات عديدة رافقتها تأكيدات من الرئيس بأنه يعتبر نفسه رئيسا للشعب الأمريكي بمختلف تياراته وطوائفه، في محاولة لإصلاح الخلل الكبير الذي حصل في عهد الإدارة السابقة التي أوصلت البلاد إلى حافة الحرب الأهلية. وكان قراره إلغاء حظر دخول المهاجرين من الدول الإسلامية، واختياره للسيدة كاملا هاريس ذات الأصول الأفريقية كأول امرأة تشغل هذا المنصب في تاريخ الولايات المتحدة، ووقف بناء الجدار مع المكسيك، والتواصل مع الجارين المكسيك وكندا لتهدئة الأوضاع معهما خطوات جادة في هذا الإتجاه.

ب- جائحة كوفيد -19

بذلت الإدارة الجديدة جهودا مضاعفة في مكافحة الجائحة واعتبرت ذلك واحدا من أولى واجباتها، حيث أطلق الرئيس خطته للتصدي لهذا الوباء واتخذ خطوات لتوسيع نطاق الفحوصات وزيادة الإلتزام باستخدام الكمامات، وبادرت إدارته إلى حملة تطعيم واسعة النطاق في محاولة لوقف انتشار الوباء، وسنت العديد من القوانين التي تحد من التجمعات، وتوجيه موارد فيدرالية أكبر للأفليات المتضررة، وفرض على المسافرين إلى الولايات المتحدة بإجراء الفحوصات اللازمة ودخول الحجر الصحي.

 

ج- الاقتصاد

 بدأت بوادر التعافي الاقتصادي في الأيام التالية لتولي الإدارة الجديدة مهامها، مرتكزة على جو التفاؤل السائد، وسلاسة انتقال السلطة، مع تقديم هذه الإدارة خطتها للتعافي الاقتصادي البالغة 1.9 تريليون دولار، تشمل توسيع المساعدات الغذائية وتقديم مساعدات مالية للأمريكيين ذوي الدخل المحدود، وتحفيز الاقتصاد من خلال دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وإيجاد وظائف لملايين الأمريكيين الذين فقدوا وظائفهم، ويعيشون على المنح الفيدرالية، ومن المؤمل أن تنجح هذه الخطة في إخراج قرابة 12 مليون أمريكي من دائرة الفقر، كما تم رفع معدلات الضرائب على الشركات، وهي خطوات جريئة في اتجاه التعافي الاقتصادي المنشود.

ثانيا: السياسة الخارجية

أ- الملف الإيراني

أولت الإدارة الجديدة اهتماما خاصا بالملف الإيراني نظرا لتشابكاته المعقدة محليا ودوليا وإقليميا، وارتباط تلك التشابكات بالمصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة، حيث أعطت إشارات قوية على رغبتها في العودة إلى الاتفاق النووي (5+1) مع بعض الإشتراطات التي لا يتوقع إنها ستقف عائقا أمام عودتها، حيث يبدو أن إيران على استعداد لإضافة بعض الضمانات الإضافية لطمأنة الأطراف المعنية بعدم اجتياز الخطوط الحمراء، في ظل رغبة أوروبية قوية تدفع إلى عودة الأمور إلى مجراها الطبيعي، إنقاذا لهذا الاتفاق من الإنهيار بعدما بدأت إيران في التخلي تدريجيا عن بعض إلتزاماتها التي وردت في الاتفاق المذكور، ومنها البرتوكول الإضافي.

ب- الملف اليمني

أبدت إدارة الرئيس بايدن رغبتها الشديدة في إيجاد حل سياسي للحرب في اليمن يراعي مصالح الشعب اليمني ويحفظ وحدة ترابه، وقد اتخذت خطوات عملية في هذا الإتجاه منها تعيين الدبلوماسي المخضرم تيموثي ليندركينغ، الذي بادر بإجراء مشاورات مع الأطراف المؤثرة في هذا الملف، وسط حركة سياسية دولية دافعة للحل السلمي، ويبدو ان الولايات المتحدة توظف ثقلها الدولي ونفوذها الإقليمي للدفع باتجاه تسوية سياسية شاملة تعيد لليمن استقراره ودوره المحوري في المنطقة.   

ج- الملف الفلسطيني

انطلق الموقف الأمريكي الجديد في هذا الملف من مبدأ حل الدولتين، وهو الموقف الذي تؤيده غالبية دول العالم، رغم انتقاصه الشديد من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني باعتباره يعطي دولة الاحتلال 78% من أرض فلسطين التاريخية، ولكنه المتاح حاليا، في ظل ظروف عربية وإسلامية ودولية غير مواتية، وعلى الرغم من كل ذلك فإن حكومة الاحتلال ترفض الإذعان لحل الدولتين معتمدة على فرض الأمر الواقع على الأرض، ولا يزال الشعب الفلسطيني ينتظر تحركا جديا من الإدارة الأمريكية الجديدة والمجتمع الدولي، تخرج منطقة الشرق الأوسط من النفق المظلم الذي دخلته.   

ج- الملف الصيني

الكل رابح هي استراتيجية أمريكا الجديدة إزاء الصين، ومن شأن ذلك التخفيف من حدة المواقف المتشنجة التي طبعت العلاقات بين الدولتين في عهد الرئيس السابق، وقد ظهرت بوادر التحسن في مناخ العلاقات بين الدولتين من خلال ارتفاع أسعار النفط، والذهب والمواد الخام الأخرى، خلال الشهرين الماضيين، بما يعكس الثقة في المستقبل، والتخفيف من القيود التجارية المتبادلة، في ظل حماس أوروبي للعودة إلى السوق الصينية، بعدما أرغمتها العقوبات الأمريكية على الانسحاب منها.

د- التواصل مع المنظمات الدولية وتعزيز حقوق الإنسان

أعاد الرئيس بايدن بلاده إلى اتفاقية باريس المختصة بمكافحة التغير المناخي، وانضم مجددا إلى منظمة الصحة العالمية، كما أن وزير خارجيته كشف بأن الرئيس قد أصدر تعليماته بالانخراط في أنشطة مجلس حقوق الإنسان، وينتظر أن تعود أمريكا قريبا إلى منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (اليونسكو)، واتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ.

كما أن الإدارة الجديدة أصدرت بيانات عدة حول موقفها من حقوق الإنسان، بما في ذلك الديمقراطية، والمساواة، والحريات العامة، وربطت هذا الملف بالسياسة الخارجية، وجعلته في صلب اهتماماتها الدولية، كما أوضحت بجلاء إنها لن تتساهل إزاء الممارسات القمعية التي تنتهجها بعض الدول ضد شعوبها.