كوبا واللقاحات الأربعة

 

عبدالملك بن عبدالله الهِنائي *

قبل ما يزيد على السنة بقليل، بدأ وباء كورونا المستجد، أو ما يطلق عليه حالياً "كوفيد 19"، بالاستشراء والانتشار السريع في معظم دول العالم، من الصين شرقاً إلى أمريكا غرباً، مروراً بأوروبا التي عصف الوباء بمعظم بلادها عصفا شديدا، خاصة إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا. يومها أعلنت دول مثل أمريكا والصين وروسيا وبريطانيا وغيرها أنها وجهت المراكز البحثية فيها للبدء في البحث وإجراء التجارب العلمية من أجل احتواء الوباء والوقاية منه. وفي هذه الأثناء، غردتُ على "تويتر" قائلا: "إنَّ هناك فرقا بين دول أقصى ما تستطيعه تجهيز المخازن وتسهيل استيراد الدواء والمسلتزمات الطبية، ودول توجِّه مراكز البحوث والمصانع فيها لإيجاد وتصنيع الأدوية اللازمة لمكافحة واحتواء الوباء". كنت أقصد في هذه التغريدة استنهاض الهمم في كل الدول العربية وليس في دولة بعينها، لا سيما وأنَّ دولا في المحيط العربي، ومنها الهند وإيران وأوروبا، قد أعلنت حينها أنها بدأت في البحث لتصنيع دواء للوباء المستجد. وردَت حين ذاك العديد من التعليقات على التغريدة، كثيرٌ منها أدرك مغزاها واستحسنها، وبعضها كانت للأسف عبارة عن محاولات للمزايدة على الوطنية أو ادعاء لها. بالطبع لم أرد على التعليقات لا بالسلب ولا بالإيجاب، لأنني أنظر إلى وسائل التواصل الاجتماعي كساحة للتعلم ومنصة لنشر المعرفة، وليس سوقا للمزايدات والمناقصات.

والآن.. وبعد مرور أكثر من سنة على بدء الجائحة، فإنه على مستوى الوطن يبدو جليًّا أن حكومة السلطنة بذلت ولا تزال كل ما أمكن من جهد ومال؛ سواء كان ذلك من أجل الوقاية من الوباء أو للتخفيف من آثاره الاقتصادية، وقد شملت تلك الجهود رعاية جميع من يعيشون على أرض عُمان، مواطنين وغير مواطنين، بما في ذلك مساعدة من أراد مِنَ المواطنين العودة لعمان من الخارج أو مَن أراد من غير المواطنين الرجوع إلى بلادهم؛ حيث تمَّ تدبير رحلات جوية خاصة لهم، كما أنَّ المجتمع والاقتصاد تحمَّلا أعباء كبيرة. لكن مستقبل الوباء لا يزال غامضا على المستوى المحلي والعالمي؛ ففي حين تبتهج النفوس وتُسر لأخبار تزايد أنواع اللقاحات المكتشفة، فإنَّ ظهور الفيروسات المتحورة من الفيروس الأصلي يؤدي لشيء من الوجل والترقب؛ لذلك فإنَّ البحوث والتجارب لإيجاد الدواء الأنسب والأنجع لا تزال مستمرة في كثير من دول العالم.

وفي الأسبوع الماضي، نشرت شبكة CNBC تحليلا مُطوَّلا عن كوبا بعنوان "الصحة والعلم"؛ جاء فيه أنَّ كوبا -وهي الجزيرة المحاصرة منذ أكثر من ستين عاماً من قبل جارتها الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية- تجري تجارب على أربعة أنواع من اللقاحات ضد وباء "كوفيد 19". أحد هذه اللقاحات أعطي الاسم التجاري سوبيرانا أو2 (Soberana O2) وتعني باللغة الإسبانية "السيد" أو "المستقل". ومن المقرر أن يبدأ هذا الأسبوع تجريب هذا الدواء على 150 ألف شخص في كوبا. وقد قال الخبراء إنَّ نجاح هذا الدواء سيكون فتحاً علميًّا مدهشا لكوبا، وإضافة مهمة لنظامها الصحي المتقدم؛ ذلك أنَّ لقاح سوبيرانا أو 2 يتميز عن اللقاحات الأخرى -مثل فايزر وغيره من اللقاحات المستخدمة حتى الآن- بأنه لا يحتاج إلى تبريد؛ مما سيسهل نقله وتخزينه. وإضافة للفتح العلمي، فإن نجاح هذا اللقاح سيكون نصرا سياسيا كبيراً لكوبا، لا سيما وأن دولا كثيرة منها فيتنام وفنزويلا وإيران أبدت رغبة في الحصول عليه. وتطمح كوبا إلى إنتاج 100 مليون جرعة منه خلال العام الحالي، كما تخطط لتطعيم جميع سكانها الذي يتجاوز عددهم 11 مليون نسمة قبل نهاية العام. وعلى الصعيد الاقتصادي، بدأت كوبا استثمار نجاحها في إنتاج هذا اللقاح للترويج للسياحة فيها، رافعة شعار "كوبا: شمس وبحر ورمال وسوبيرانا أو2"؛ وذلك من أجل جذب المزيد من السياح إليها، ليس للراحة والاستجمام تحت الشمس وعلى الشواطئ فقط، وإنما أيضا من أجل الحصول على اللقاح، وذلك في إشارة إلى استعدادها لتلقيح السياح بجرعات من لقاح سوبيرانا أو2.

وإشارة إلى مقالَيْ السابقيْن "صناع التنمية" و"رأس المال البشري"، المنشورين في جريدة "الرؤية" في الأسابيع الماضية، فإنَّ كوبا -وهي الدولة الفقيرة اقتصاديا، والمنهكة ماليا- تعتبر نموذجا في عدد من المجالات التنموية، وفي الاستثمار في رأس المال البشري، وقد ظهر ذلك في مجال كفاءة النظام الصحي ومجال النظام التعليمي فيها، وهما مجالان أشادت كثيرٌ من المنظمات الدولية بتميز كوبا فيهما. هذا إلى جانب استمرارها منذ أكثر منذ حوالي ستين عاما معتمدة على ذاتها ومستقلة في قرارها، وذلك رغم الظروف الصعبة التي تمر بها بدءًا بغزوها في ستينيات القرن الماضي من قبل معارضين كوبيين بمساندة من المخابرات المركزية الأمريكية CIA، فيما يُعرف بغزو خليج الخنازير، ثم الأزمة المعروفة بأزمة الصواريخ الكوبية بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، ثم الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية عليها منذ ذلك الوقت، وهو حصار قاسٍ يخنق المجتمع والاقتصاد الكوبي.

... إنَّ الدارسَ والمتأملَ بحيادية وموضوعية للتجربة الكوبية، يجد أنها تجربة ناجحة ونموذج مشهود له في مجالات مهمة، ويندر وجود مثيل لها. صحيح أنَّ الكوبيين في حاجة لكثير من السلع والخدمات، ولا يملكون المال لشراء كثير من سلع الرفاهية، لكنَّ نجاح كوبا في المجال الصحي، وهو مجال إنساني بامتياز، هو اعتراف عملي بحق الإنسان في الحياة دون تمييز. وإلى جانب نجاح وكفاءة نظامها الصحي، فإنَّ كوبا تعتبر من النماذج الناجحة في مجال محو الأموية؛ حيث حصلت على عدة جوائز عالمية في هذا المجال، وقد وصلت معدلات محول الأمية بين الشباب ذكورا وإناثاً إلى ما يزيد على 99%، كما أن خريجي الجامعات الكوبية في مجالات الطب والهندسة الزراعية...وغيرها، مشهودٌ لهم بالكفاءة؛ لذلك ترسل كوبا خبراءها في عدد من التخصصات والمهن إلى أكثر من 130 بلدا في العالم لمساعدة تلك البلدان في عدة مجالات تنموية.

بطبيعة الحال، لا يُمكن استنساخ تجربة كوبا في بلاد أخرى؛ فلكل بلد وشعب ظروفه وإرثه وخصائصه، لكن التجربة الكوبية تؤكد أن الخصومات والعداوات والحصار يمكن تحويلها إلى فرص للتحدي والنجاح، كما أن هذه التجربة تؤكد أن المال لا يصنع المجد، بل على العكس قد يكون سببا في ضياعه، وأن بناء المجد ليس دائما كما قال الشاعر:

بالعلم والمال يبني الناس مجدهمُ

لم يُبنَ مجدٌ على جهل وإقلالِ

لقد شيَّدت كوبا مجدًا لها في مجالات الصحة والتعليم والزراعة، وهي محاصرة ومعدمة إلا من القليل من المال، لكنها شيَّدته بالعلم والعمل، وبالجهد والثبات على المواقف.

 

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

تعليق عبر الفيس بوك