ألم ينتهِ زمن القرار السلبي؟!

عيسى الغساني

في العمل الإداري استقرَّ الفكرُ -فقهًا وممارسةً- على حق الإدارة في عدم الرد على التظلمات والطلبات والمتابعات المقدمة من الفرد.

ونظم القانون عند عدم الرد من طرف الإدارة -سواء تظلمًا أو طلبا أو متابعة- بعد مدة من الزمن -تختلف القوانين في تحديدها من أسبوع إلى 30 يوما أو اكثر من تاريخ التظلم- بعدها يحقُّ رفع دعوى أمام المحكمة المختصة؛ سواء بعدم صحة القرار أو بطلب التعويض.

وفكر القرار السلبي وما سبَّبه ويسببه من إضرار بالنظام الإداري، والمجتمع، والفرد، والثقة في النظام القانوني الإداري برمته، تتوجَّب مراجعته وإعادة تقنينه؛ بحيث يُلغى مفهوم القرار السلبي، وتلتزم الإدارة بتقديم قراراتها في المسألة أو التظلم المعروض أمامها إيجابا أو سلبا، وتتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن قراراتها.

والدعوة لإلغاء مفهوم القرار السلبي، تجد سندَها من عناصر تعزيز سيادة وحكم القانون، وتعزيز الشرعية والمشروعية، ودعم سلطة القضاء في الحكم الناجز، وتعزيز الثقة في النظام القانوني وبناء منظومة الشفافية والحوكمة.. إذ العدالة المتأخرة هي الظلم بعينه.

والقرارُ السلبيُّ الذي هو فقه إداراي قديم عفا عليه الدهر، وفقد مقومات وجوده، إذ أصبحت وسائل حفظ وتقنين القرارات سهلة ويسيرة، ومن ناحية أخرى هو إلزام الإدارة نفسها بمبدأ الإفصاح والشفافية عن تصرفاتها التي هي واجب عليها وحق للمجتمع.

والإفصاح والشفافية لتصرفات وأعمال الأدارة، يمنحان القضاء إمكان الفصل السريع والناجز، ويحققان الثقة في النظام القانوني، وصولا إلى تأصيل مفهوم الأمن القانوني فكرًا وواقعًا. وعند بناء الثقة بين الفرد والإدارة ومنهج الحصول علي الحقوق، يبني التماسك الاجتماعي وشعور الفرد والمجموع بالطمأنينة والرضا نحو المنظومة القانونية.

وطرح مفهوم إلغاء القرار السلبي يجد منطلقه من المصلحة العامة، ومبدأ احترام القانون، والقضاء الناجز والشفافية والحوكمة، وفقا للأسانيد التالية:

أولا: الإدارة في عملها لا تبتغي هدفا غير المصلحة العامة، وتستند في كل تصرفاتها وأعمالها إلى  الشرعية والمشروعية. والشرعية تعني اتخاذ القرار بناء على قانون، والمشروعية هي التزام الإدارة بحكم القانون؛ أي أنَّ الغاية هي المصلحة العامة بمعني النفع العام للمجتمع، ومن واجب الإدارة وحق المجتمع أن تكشف الإدارة عن قراراتها، حتي تكسب ثقة المجتمع، وتفاعله الإيجابي واحترامة لسلوكها، وتبني هذه القرارات والدفاع عنها؛ لأنها تصب في خدمة الصالح العام.

ثانيا: القرار الإداري وعموده الفقري أن يكون القرار مستندًا إلى قانون، وليس سلطة تقديرية ليس لها حدود؛ فعندما تمتنع الإدارة عن الرد على التظلم أو الطلب أو الاستفسار، تمنح نفسها سلطة فوق القانون، وبمعني آخر تصبح الإدارة هي القانون، وهذا أمر في غاية الخطورة والضرر على منظومة احترام القانون وما له من أثر على أمن الفرد القانوني وتماسك البناء الفكري الاجتماعي لمبدأ احترام القانون.

ثالثا: دعم فكرة القضاء الناجز.. لكي يكون القضاء ناجزًا، يقتضي ذلك أن تعرض أمامه الحقائق دون تأخير وبكل شفافية،ودون استخدام تفسيرات تقديرية لا تخدم النظام الإداري أو قيم العدالة، أو الصالح العام. وإبطال فكرة القرار السلبي، سوف يطرح المسألة مثارَ الخلاف بواقعها وحقائقها ويمنح المتقاضي الشعور بالثقة والأمن النفسي والقانوني، وأن القانون يسمو على الجميع، وهذا يعزز دولة الشرعية والمؤسسات.

رابعا: الشفافية والحوكمة.. الشفافية في بناء القرارات واتخاذها تقتضي أن يعلم بالقرار، والعلم بالقرار هو قرينة صحته وسلامته؛ فظهور القرار إلى النور سيجعل الجميع يراه، فإذا كان صالحا بقي واستمر، وإن كان غير صحيح، عدل، أو باطل وهذا يقلل حجم الضرر. أما في حال عدم كشف القرار غير الصحيح، فإنَّ ضرره سيستمر، ويمتد إلى أن يتعاظم الضرر أيًّا كان نوعه ودرجته، فمعظم النار من مستصغر الشرر. والشفافية هي الطريق الوحيد لحوكمة التصرف أو العمل، وبدون شفافية تنتفي الحوكمة.

خلاصة القول.. إنَّ عدم استخدام فكرة القرار السلبي له طريقان؛ هما: أن تتحلى الإدارة بالوعي بخطورة القرار السلبي، وأضراره على الإدارة نفسها، وآثاره التي تمتد للفرد والمجتمع، فتسن لنفسها نظاما داخليا يتسم بالشفافية، وتعلن قرارها لصاحب العلاقة. والطريق الثاني: تدخل تشريعي رصين يضع القيود والضوابط على مفهوم السلطة التقديرية للإدارة، وينهي القرار السلبي تطبيقا، ويحقق التوازن بين المصلحة العامة وفاعلية الإدارة في سياق المشروعية.

تعليق عبر الفيس بوك