الاستقرار الاجتماعي في بلادنا

د. عبدالله باحجاج

في ظل التحولات الدراماتيكية المتسارعة التي تشهدنا بلادنا في عهد نهضتها المتجددة، فإنَّ الاهتمامَ بمستقبل الاستقرار الاجتماعي لن يقل شأنا عن الاهتمام بالمستقبل المالي والاقتصادي والسياسي، وقد تلقَّت بلادنا إشادة من صندوق النقد الدولي بصحة مسارها المالي حتى الآن. وفي المقابل، نحن في أمسِّ الحاجة كذلك إلى الاطمئنان على مسارنا الاجتماعي، ودون هذا الاطمئنان فإنَّ نجاح مسارنا المالي سيكُون كمن يبني فوق رمال متحركة؛ خاصة إذا ما عملنا أنَّ نجاح مسارنا المالي مرجعه أساسًا تشديد الخِناق الاجتماعي، وليس ناجمًا عن التحول الطبيعي للإنتاج الاقتصادي، بدليل تعالي الصيحات والصرخات الاجتماعية المتزايدة من جراء السياسة المالية الحكومية.

وشهادة صندوق النقد الدولي تأتي على هذه الخلفية، ومن ثم لا ينبغي أن تغيب عنا هذه الحقيقة، وهى التي تقف وراء التذكير بها الآن، بعدما وجدناها تختفي في هذه الإشادة، فأجندات الصندوق الدولي، تتحقَّق في بلادنا بصورة مثالية، وغير مسبوقة، لن نُنكر انعكاساتها الإيجابية على موازنة الدولة، لكن كل هذا يتم على حساب الأبعاد الاجتماعية.

فالصندوق يطالب بتخفيض أعداد الموظفين والمرتبات، وفرض منظومة متكاملة من الضرائب والرسوم ورفع الدعم الحكومي.. وهذه أجندات جاهزة ينصح بها الصندوق الدول التي تستشيره كبلادنا، وتفرض على الدول التي تقترض منه، ويمارس مختلف الضغوط عليها من أجل الانتقال إلى دولة الجبايات، وهو لا يهتمُّ كثيرًا بالأبعاد الاجتماعية، ولا يعتد بها إلا في نطاق نظرة ضيقة وتقليدية ذات مسحة إخراجية، هي أقرب للتمثيل من الحقيقة.

من هنا، يحقُّ لنا أن نتساءل عن الاستقرار بشقيه الاجتماعي والاقتصادي؟ وعن ردود الفعل الاجتماعية من الأجندات المالية التي تحققت حتى الآن، والتي يشيد بها صندوق النقد الدولي؟ وكذلك عن حجم الآلام الاجتماعية الناجمة عنها حتى الآن؟ لكي نضع هذه الإشادة في سياقاتها، والتذكير بالأهم، المتوازي للأهمية المالية الآمنة والمستقرة، وهو الاستقرار بشقيه الاجتماعي والسياسي.

وبالذات، بعدما ظهرت مؤشرات سلبية خارجية تؤثر على هذا الاستقرار، وهى واضحة ومتزايدة، وتمس منطقة الأكل التي تعتقد الحكومة أنها تحميها عبر آلية إعفاء 90 مادة أساسية من ضريبة القيمة المضافة؛ فمعظم أسعار المواد الغذائية الأساسية قد ارتفعت، وأصبح المواطن/ المستهلك يحس بثقلها الآن في ضوء موجة الضرائب والرسوم ورفع الدعم...إلخ.

وقد قُمنا بعملية استقصائية بحثًا عن مستقبل الغذاء في ظل هذا الارتفاع، وخرجنا بالنتيجة التالية:

- أن عصر الغذاء الرخيص قد ولَّى، ومؤشراته الآن واضحة في ارتفاع معظم أسعار المواد الأساسية كالقمح والذرة والسكر وزيت الطبخ والشعير والذرة...إلخ وقد ارتفع بعضها بنسبة 20%.

- الارتفاع سيكون صفة دائمة؛ بمعنى أنه ليس ارتفاعًا موسميًا، وليس له علاقة بالجفاف أو كورونا مثلا؛ وذلك للأسباب التالية:

* أولا: تحول دول منتجة للغذاء- كالصين وبنجلاديش وباكستان والهند- إلى مستوردة للسلع المرتفعة الآن.

* ثانيا: إقدام دولة منتجة للقمح مثل روسيا على فرض ضرائب على التصدير رغم ارتفاع القمح؛ فهى تبيع طن القمح بسعر مرتفع جدا الآن، وما زاد عن سعره تفرض عليه ضريبة بنسبة 70%.

* ثالثا: تشكل المضاربات في البورصات العالمية أكبر العوامل التي ترفع أسعار الغذاء.

- أصبح الفارق في شراء القمح من الخارج من قبل إحدى شركات المطاحن شركات العمانية 90 دولارا للطن قابل للزيادة -وفق مصدر مسؤول في إحداها- ويتوقع استمرار رفع أسعار القمح.

- تأثير فرض الضرائب ورفع أسعار الخدمات والمأذونيات على الشركات العمانية وتنافسيتها الخارجية؛ وبالتالي ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية.

- خطر المجاعة أو الاختلال في الأمن الغذائي، قد يحدث في الدول التي لا تضع إستراتيجيات مبكرة وخططا واضحة وسريعة للإنتاج الزراعي والسمكي والحيواني.

أين الإشكالية؟

ولو توقَّفنا عند النتيجة الأخيرة المتعلقة بالإستراتيجيات، فإنَّ الإشكالية تكمن في الإدارة الحكومية لملف الأمن الغذائي في بلادنا، فمنذ بروز أزمة الغذاء عام 2008، بسبب وقف روسيا تصدير القمح، وارتفاع الأسعار إلى 450 دولارا لطن القمح، صدرت توجيهات عُليا بإقامة صوامع لمخزون القمح الإستراتيجي في ظفار لتخزين 100 ألف طن من القمح.

فلماذا لم يَرَ هذا المشروع النور في مكانه؟ وإذ نُفِّذ خارج توصية المكان، فلماذا لم يستكمل المشروع؟ وكيف أعطِي لشريك خليجي؟ مهما تكون الخلفيات، فإنَّ ظفار تعد المكان الأنسب لبلادنا لإقامة هذا المخزون لموقعها الجيوإستراتيجي البعيد عن مضيق هرمز وأزماته المتجددة، ولوقوعها على البحار العالية والمفتوحة.

هنا.. نوجِّه تساؤلا صريحا، وهو: هل التحولات المالية التي تتعمَّق في بنية المجتمع لأكثر من عام، تحافظ على الاستقرار الاجتماعي من جهة، وتُسهم في بناء مجتمع متطور وسليم ومتوازن قادر على منافسة المجتمعات الأخرى من جهة، وعلى الصمود في وجه الاختراقات الأجنبية من جهة ثالثة؟

ينبغي أنْ نُعلن حالة الطوارئ الداخلية لضمان أمننا الغذائي في ضوء ما تقدَّم؛ لما له من تأثيرات إضافية وقوية على عدم الاستقرار الاجتماعي، قد يتقاطع مع تداعيات تشديد الخناق الاجتماعي؛ فالسياسة المالية في بلادنا تقع الآن في إشكاليتيْن مزدوجتيْن؛ الأولى: عدم وجود رؤية بتأثير قراراتها على مستقبل الاستقرار الاجتماعي، والثانية: اتخاذ القرارات دون دراسة التأثيرات الخارجية على هذا الاستقرار، كارتفاع أسعار معظم المواد الغذائية الأساسية، ومآلاتها المتشائمة.

وبالتالي؛ نخرج بأهم التوصيات العاجلة:

(1) ضرورة فتح ملف تقاطع تداعيات السياسة المالية للحكومة مع ارتفاع أسعار معظم المواد الغذائية الأساسية.

(2) الإسراع في إقامة صوامع لمخزون القمح الإستراتيجي في ظفار.

(3) تشكيل كيان مُتخصِّص مرتبط بالمؤسسة السلطانية للأمن الغذائي، وسحب هذا الملف من المؤسسات القائمة بعدما أثبتت أنها لن تتمكن من رفع رأسها لرؤية التهديدات المقبلة.

(4) إقامة كيان للعصف الذهني مُتفرِّغ للبحث والدراسة والاستقصاء، ورسم خرائط بالمهددات والحلول، وتزويدها لصناع القرار في الوقت لمناسب.

وأخيرا.. ندعو خبراءنا وكُتَّابنا إلى عدم المساهمة في صناعة الوهم، وإذا لم ينحازوا للأبعاد الاجتماعية المتضررة، وتأثيراتها على الاستقرار الاجتماعي؛ فعليهم أن يكونوا موضُوعيين في توضيح الإيجابيات المالية والتداعيات الاجتماعية للسياسة المالية الحكومية، وقد رَصَدنا انحيازهم المطلق لإشادة صندوق النقد الدولي من المنظور الإيجابي المالي. وهم بذلك يُوجِّهون رسالة مشوشة أو مشوهة لصانع القرار، يدرُون أو لا يدرون، رغم علمهم بالتداعيات الاجتماعية.