د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *
الشعبوية أكبر معاول هدم ثقافة الديمقراطية، وأعظمها خطرا على مستقبل النظام الديمقراطي، هي حالة مضادة للجوهر التمثيلي الذي تقوم عليه النُّظم الديمقراطية؛ لأنها تدَّعي تمثيل الإرادة الشعبية الحقيقية في تجاوز لمؤسسات الدولة القائمة والدستور وآليات العمل الديمقراطي.
تاريخ الشعبوية تاريخ من النتائج الكارثية على المجتمعات والأوطان، مهَّدت الطريق لكل زعيم شعبوي للتفرد بالسلطة والبطش برفاقه، وكانت سلاحَ كل سياسي فاشل لتزعم الجماهير وصولاً للسلطة.
المد اليميني الشعبوي هو الذي يحكم العالم الحر اليوم، وهذا ما يجسده تعاظم شعبية الأحزاب اليمينية الشعبوية في الغرب وأمريكا، وتصاعد نجمها يوماً بعد يوم. أصبحت القيم الليبرالية مهددة بالتضييق والانتهاك في عقر دارها، وتصاعدت محنة الديمقراطيات المعاصرة بوصول شخصيات شعبوية لا تأبه بالقيم الديمقراطية إلى سدة الحكم، لهم أنصار بالملايين مستعدون لخرق كل الثوابت التاريخية للديمقراطية، وما مساءلة مجلس الشيوخ الأمريكي والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن اقتحام أنصاره للكونجرس في تلك الليلة الدامية، إلا بعض تجليات الخطاب الشعبوي الخطر.
هذا في العالم الحر، فماذا عن الساحة العربية والخليجية؟
الخطاب الشعبوي العربي: إذا كانت الديمقراطية مهددة في عقر دارها بالشعبوية، وبريطانيا اليوم ضحية قرارها الانفصالي الشعبوي، وأوروبا مهددة بالتفكيك بسبب المد الشعبوي، فإن "الشعبوية العربية" هي الأعظم تهديداً لمستقبل النهضة والتقدم، وكانت وراء كل إخفاقات ونكبات العرب إلى اليوم.
أقصد بـ"الشعبوية العربية" السياسات الشعبوية على امتداد 7 عقود كارثية، خاصة خطابها الشعبوي الذي هيمن على المجال الإعلامي "فنحن أمة مأخوذة بسحرالبيان، وإن من البيان لسحرا" بتجلياته الثلاث:
1- الخطاب الديني الشعبوي: لقد تسيد نجوم ماسمي بـ"الصحوة" الإسلامية الساحة الإعلامية والدينية لفترة تاريخية طويلة، كان لهم تأثير كبير، ومريدون بالملايين يبجلونهم ويحامون عنهم ولا يرتضون فيهم قولاً.
2- الخطاب الثقافي الشعبوي: من الظواهر الثقافية المؤسفة في الحياة الفكرية ركوب بعض مثقفينا -ممن يشار إليهم بالبنان- موجة الشعبوية بهدف النجومية وهم في غنى عنها.
3- الخطاب السياسي الشعبوي: ظهرت الشعبوية السياسية في الثلاثينيات، وأنتجت الفاشية والنازية في أوروبا، والحكام الديكتاتوريين في أمريكا الجنوبية والاتحاد السوفيتي أدت لكوارث عالمية، وامتدت للعالم العربي بدءاً بالسياسات الشعبوية للزعيم عبدالناصر وخطابه الشعبوي الساحر، مروراً بكل قائد فاشي ومغامر سبب هزائم مذلة لبلاده، وصولاً إلى سياسيين ديمواجيين تزعموا المعارضة الشعبية إبان مد "الربيع العربي" وصلت موجته الكويت، فحمل شباباً غُراً اقتحموا البرلمان الكويتي،الأربعاء الأسود 16 نوفمبر 2011، لكن الله سلم ولطف بحنكة وحكمة أمير الكويت الراحل، رحمه الله تعالى.
الخطباء الشعبويون أنواع: قد يكون سياسيًّا يسعى للسلطة، وقد يكون تياراً أو حزبا عقائديا معادياً للآخر، وقد يكون خطيباً دينياً محرضاً على الكراهية، وقد يكون إعلامياً يتجاوز ضوابط المهنة وأخلاقياتها طمعاً في السبق الإعلامي، وأخيراً: قد يكون ناشطا "تويترياً" مُهيِّجاً للرأي العام في قضية قبل أن تستبين حقائقها.
الشعبويون.. ما الذي يجمعهم؟
تهييج مشاعر الجماهير وإثارة حماستهم وإلهاب غرائزهم وشحنهم ضد أو مع: نظام سياسي أو شخص أو فكر وقضية، في تجاوز للعقلانية والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن والارتقاء بالوعي.
أخيراً.. من الضروري التمييز بين الشعبي والشعبوي، فهما مفهومان مختلفان سواء في نمط التفكير أو في أسلوب الخطاب والتعبير، الخطاب الشعبي يتبنى هموم الشعب ومطالبه ويعيش معاناته اليومية، ويحترم المؤسسات القائمة وأحكام القانون والقضاء، الخطاب الشعبي خطاب تنويري عقلاني يرشد السلوك العام للجمهور وينظمه ويوجهه، ويستثمر طاقاتهم إيجابياً. أما الخطاب الشعبوي فهو خطاب وصولي، انتهازي، فوضوي، غير عقلاني، مضلل، لا يحترم القانون ولا المؤسسات القائمة، يستخف بأحكام القضاء، ويهيج العامة ضدها، ويستثير عواطفها وانتماءاتها الوطنية والقومية والدينية والطائفية لغايات نفعية ضيقة سياسية أو اقتصادية، أو نفوذ اجتماعي أو شهرة إعلامية.
* كاتب قطري