صناع التنمية

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي

باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

 

كثيراً ما سمعنا بمصطلح "صناع السوق market maker" والذين هم أفراد أو مُؤسسات يعملون في الوساطة المالية في البورصات وأسواق الأسهم، ويعرضون شراء وبيع الأسهم بالسعر الذي يرونه بالزيادة أو النقصان، وهدفهم في ذلك زيادة سيولة الأسهم، أي توفرها للتداول في السوق. كما سمعنا كثيراً ورددنا شعار "الإنسان صانع التنمية وغايتها"، وهو لا شك شعار نبيل وتمَّ بذل الكثير من الجهود من أجل تحقيقه.

التنمية دائماً، بحسب المصلح والمعنى مرتبطة بالابتكار والإبداع، فهي ليست خططاً متكررة مُتطابقة الوسائل والأهداف، وإنما هي تجديد مُستمر وتغيير إيجابي باتجاه حياة أفضل يسودها الازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي. وكذلك هو حال السوق الذي هو في حال متجددة، سواء بتجدد وتزايد حاجات الإنسان أو بما يعرض فيها من منتجات جديدة نافعة. وما دام الأمر كذلك، فإنَّ مقولة "إن مخرجات التعليم لا تلبي حاجة السوق" ليست دقيقة، بل ربما تكون قد عفا عليها الزمن، لأنَّ الإنسان بما يمتلك من معارف وعلوم وقدرات على الابتكار، هو من يصنع السوق وهو من يقود التنمية لتحقق أهدافها، ويجب ألا يفرض عليه السوق مهنة لا تراعي كرامته ولا ترقى بمستواه المعيشي. لذلك فإنَّ القول الأصح في هذه المرحلة هو إن "على النظام التعليمي إيجاد مبدعين أو مبتكرين"، وأن "الابتكار يخلق السوق".

وفي السنوات الأخيرة أصبح دعم الابتكار وتشجيع المبتكرين هدفاً وأولوية تسعى إليها أكثر الدول، وقد أشار صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم في كلمته التي قدم بها وثيقة "رؤية عمان 2040" إلى أن من بين الأولويات الوطنية التي ستعمل عليها "الرؤية" هو "تحديث منظومة التعليم ودعم البحث والابتكار". كما أن دولاً مثل جمهورية الصين الشعبية جعلت الابتكار هو المحرك الرئيس للتنمية، وفي ذلك يقول الرئيس الصيني، شي جين بينغ في المجلد الثاني من كتابه، الذي هو بعنوان "حول الحكم والإدارة": "نضع الابتكار في المقام الأوَّل، لأنَّ الابتكار هو أول قوة محركة لقيادة التنمية".

وحيث إنَّ التنمية عملية مستمرة متجددة، فإنَّ السوق بصفة عامة متجدد أيضاً، لأنَّ حاجات الناس متجددة، ولأن العلم والبحث والابتكار يطرح فيها سلعا وخدمات جديدة، يوجد دائماً من يطلبها ليشتريها بمجرد عرضها في السوق، ووجود الطلب على المنتجات المُفيدة ثابت، سواء في النظرية الاقتصادية التي تقول "العرض يخلق الطلب" أو في الواقع الذي نعيشه. فعندما عرضت السيارة الكهربائية مثلاً في الأسواق زاد الطلب عليها بصورة مذهلة، وكذلك الحال في ألواح الطاقة الشمسية وفي خدمات توصيل السلع إلى المنازل، وغير ذلك من السلع والخدمات المفيدة التي تُطلب فور توفرها في السوق. ما نريد قوله أنَّ الإنسان المبتكر هو الذي يصنع السوق، لكن الابتكار لا يأتي صدفة، فهو يحتاج إلى مزيج من ثلاثة عناصر هي التعليم والاجتهاد والذكاء الفطري.

وحسب بعض الإحصاءات المتاحة عن الباحثين عن عمل في السلطنة، فإنَّ أكثر من 20% منهم يحملون الدبلوم الجامعي فما فوق، ومن بينهم عدد لا بأس به في تخصصات العلوم والهندسة بمختلف فروعهما. وإذا أضيف إلى هؤلاء أولئك الذين هم في وظائف وأعمال، وأظهروا أن لديهم قدرات على المبادرة والابتكار، فهذا يعني أن هناك فرصاً كبيرة لإيجاد كتلة من المبتكرين يتزايد عددهم عاماً بعد عام.

في التعديل الوزاري الذي تمَّ في العام الماضي تم ضم البحث العلمي والابتكار إلى التعليم العالي تحت مظلة واحدة هي "وزراة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار"، وتلك خطوة هامة جداً تستحق التوقف عندها. ولا شك أنَّ موضع البحث العلمي يرتبط إلى حد كبير بالجامعات والتعليم العالي، وهناك كثير من الدول التي ألحقته بوزارة التعليم العالي منذ عدة عقود. ومن المسلم به أنَّ التعليم عالي الجودة الذي يرافقه أو يعقبه بحوث علمية دقيقة، هو شرط ومقدمة ضرورية للابتكار. أي أن التعليم العالي والبحث العلمي أشبه بالمصنع فيما الابتكار هو المنتج، أما إلحاق الابتكار بوزارة التعليم العالي فأمر جديد، وربما قلّ حدوثه في دول أخرى، الأمر الذي يضع الوزارة أمام مسؤوليات كبيرة للقيام بخطوات عاجلة في هذا المجال، ليس فقط للاستفادة من مخرجات التعليم العالي ومن نتائج البحث العلمي، وإنما الأكثر  إلحاحا الاستفادة من آلاف الخريجين الجامعين، سواء كانوا من العاملين في الحكومة والقطاع الخاص أو من الباحثين عن عمل.

وحسب البيانات المنشورة في "الكتاب الإحصائي السنوي" عن عام 2019، يبلغ مجموع المشتغلين من العمانيين في الحكومة والقطاع الخاص، حوالي 465 ألف شخص، منهم حوالي 132 ألفا ممن يحملون مؤهلاً جامعياً فأعلى، وإذا أضيف إليهم الباحثون عن عمل والعاملون لحسابهم، وكذلك غير العمانيين الوافدين إلى البلاد من حملة هذه المؤهلات، فإنَّ هناك كتلة من الموارد البشرية ممن لدى الكثير منهم القدرة على المبادرة والإبداع والابتكار، لو تمَّ إيجاد البيئة المحفزة لهم كل في مجال عمله وتخصصه.

ولتحقيق النتائج المرجوة من تلك الكتلة من الموارد البشرية خلال فترة زمنية معقولة، لابد من تبني سياسة عامة للنهوض بالابتكار، ومن أولى الخطوات في ذلك الاتجاه الربط والتوأمة الواسعة بين الجامعات والقطاعات والأنشطة الاقتصادية، سواء الإنتاجية أو الخدمية. ومن الخطوات الهامة في هذا الاتجاه أيضا استحداث منصات، سواء كانت واقعية أو افتراضية، تسمح وتشجع على طرح الأفكار وبلورتها لتصبح ابتكارا يمكن تطبيقه أو تطويره. وفي هذا السياق من المُفيد إقامة معرض أو مُؤتمر سنوي للمبتكرين يدعى للمشاركة فيه علماء وشركات عالمية، وفي ذلك أكثر من فائدة، سواء في المجال العلمي المحض أو في المجال الاقتصادي والسياحي والتجاري. ويُمكن البناء في إقامة معرض أو مؤتمر سنوي للابتكار، على تجارب ومؤسسات قائمة مثل وحدة الابتكار الصناعي التي تأسست منذ سنوات، وكذلك المعرض السنوي لأجهزة الحاسوب، أو المعرض والمسابقة السنوية التي تنظمها هيئة المياه بالتعاون مع مجلس البحث العلمي (سابقاً) حول الابتكار في مجال المياه. كما أنَّه من المهم أيضاً استحداث جائزة للابتكار على غرار "جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب". وربما يكون من المُفيد وضع سياسة لاستقطاب الكفاءات من الخارج ممن لديهم قدرات على الابتكار في التقانة المتقدمة، على أن يراعى في ذلك المحاذير  الاجتماعية والسياسية والثقافية والسكانية حسب مقتضيات كل مرحلة.

تعليق عبر الفيس بوك