إعداد: ياسمين البطاط
كنت على علم أن كتابة مراجعة عن ثلاث روايات شكَّلت بأحداثها ثلاثية كاملة سيكون تحدِّيًا بالنسبة إليَّ، بالأخص حين يودُّ القارئ ألا يسهو عن جانب في مراجعاته ويؤثر عليه جوانب أخرى.
"بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" هي ثلاثية القاهرة الشهيرة التي قضيت الفترة الماضية في قراءتها، وإن أجمل ما في الروايات الطويلة ذات الصفحات الكثيرة أنك ستعيش بها طويلًا، لن تنفك عنها مدى العمر، أو على الأقل سيبقى جزء منك يربط ما قرأته بالواقع دائمًا، لا سيما حين يكون الكتاب في الأدب الواقعي الذي اشتهر به نجيب محفوظ. هذا العمل يعد من تلك الأعمال التي يقف فيها الناقد أو القارئ موقف المتطرف، فإما أن يكرهها ويمقتها، وإما أن يقف وقفة إيجاب وإعجاب ما انفكت عنه مرة.
أما مراجعتي لهذا العمل فستميل إلى الموضوعية، فالنماذج المركبة هي أشد ما نحتاج إليه في التقييم والوصف لمثل هذه الأعمال الضخمة التي لاقت قبولًا كبيرًا بين العامة والخاصة. ولكن السؤال الأهم الذي يراود ذهني الآن: هل الثلاثية تستحق لقب "رائعة الأدب العربي"؟ هو ذاته السؤال الذي يثير الجدل حول كون المغنية أحلام ملكة العرب، بالطبع مع الكثير من الفروقات في السؤالين، ولأكن دقيقة أكثر في مراجعتي، سأقسّم المواضيع إلى ثلاثة، البناء السردي (الشخصيات والزمن والأماكن)، والظاهرة اللغوية من الفكرة إلى تطبيعها، ونوبل للآداب في 1988.
من أهم المواضيع التي شغلت النقاد والأكاديميين في ثلاثية نجيب محفوظ البناء السردي للعمل، فنرى أن نجيب محفوظ برع بجدارة في تكوين شخصيات كاملة ديناميكية متحولة قادرة على إيصال صوتها بكل وضوح، حتى إن القارئ يتناسى أثناء القراءة وجود راوٍ يسرد الأحداث، جميع الشخصيات الأساسية في الأجيال الثلاثة -وبالأخص شخصية كمال الذي شهدنا تحولاته الفكرية منذ طفولته إلى شبابه- كان مصاغًا بإتقان لم أجده في أي رواية أخرى إلا في روايات دوستويفسكي. ولكنني لست هنا بصدد المقارنة وإنما المقاربة. شخصية "سي السيد" وزوجته أمينة، ثم فهمي وياسين وكمال وعائشة وخديجة، وإلى أبنائهم وزوجاتهم وأزواجهم، كل شخصية تظهر باستقلالية فكرية ومادية تامة عن غيرها، وذلك يتجلى في كون -على سبيل المثال لا الحصر- عبد المنعم إخوانيًّا وأخوه أحمد اشتراكيًّا، وحتى إن قلنا إن كمال تأثر بأخيه فهمي الثوري منذ بداية عهده، فإن المقارنة بين شخصيتيهما ستوضح فروقًا كبيرة، بالأخص في مسيرتهما الفكرية وطريقة تطبيقهما للأيديولوجيات التي آمنا بها.
في الغالب نجد أن أهم الروايات في العالم كانت تتميز برصد تاريخي وسياسي كبير، لذا كانت شخصياتها تتحرك وفقًا لمعطيات الزمن الذي وقعت فيه، وهذا ما ظهر جليًّا في الثلاثية، فامتدت أحداثها من أكتوبر 1918 إلى أبريل 1919 (ثورة سعد زغلول) في "بين القصرين"، ومن 1924 إلى 1927 في "قصر الشوق"، ومن 1935 إلى صيف 1944 في "السكرية."
وحتى أوضحُ بإيجاز لا إسهاب فيه، فالجزء الأخير من الثلاثية كان الفارق فيها، وربما تُقرأ الثلاثية فقط لهذا الجزء العظيم الذي ضم تحوّلات فكرية وسياسية وتاريخية عميقة وكثيرة. أما في الجزأين "بين القصرين" و"قصر الشوق" فكان الاستعمار البريطاني في بداياته والثورات الحقيقية التي شهدتها مصر افتتحت وتكاثرت بعد ثورة سعد زغلول، وذلك بظهور التيارات الفكرية والأحزاب المختلفة وتفشّي مثل هذه المعتقدات بين عامة الشعب وخاصته. على الصعيد الفني أعتقد أن نجيب محفوظ نجح بقوة في التلاعب بأدوات الزمن، فكان تارة يستخدم طريقة الاستباق للتشويق، وتارة أخرى الاسترجاع الداخلي والخارجي، وبين هذين الاثنين كان الزمن الطبيعي قابلًا للقياس ومنطقيًّا جدًّا، حتى إن شهدنا فجوة زمنية ما بين الأحداث، فهذا الأمر طبيعي جدًّا لم يُضعف من تماسك التسلسل الزمني.
ولذا أرى أن نجيب محفوظ نجح بجدارة في تسمية أجزاء الثلاثية، فكان كل عنوان مرتبطًا بالمكان الذي تقع فيه أحداث القصة، ونجيب محفوظ لا سيما في هذا العمل كان كاتبًا تصويريًّا بالدرجة الأولى، يصوّر القاهرة بحاراتها وشوارعها وأزقتها بطريقة لافتة للنظر، حتى إن القارئ سيعود إلى المصادر الإلكترونية في الكثير من المواضع فضولًا لرؤية الأماكن التي وقعت فيها أحداث الرواية.
ويمكن تقسيم الأماكن إلى أماكن مغلقة ومفتوحة في هذا العمل؛ إذ إن الأماكن المفتوحة تعد من أكثر الأماكن اتضاحًا مثل مقهى "سي علي" ومقهى "أحمد عبده" في الغورية، ثم الأماكن المفتوحة كالسينما والمسرح اللذين ظهرا في الجزأين الأخيرين من العمل كمسرح "كشكش بك" و"الكلوب المصري" وأيضًا الأماكن المقدسة التي كانت ترافق القارئ في الأجزاء الثلاثة بوضوح بالغ، مستحضرًا وشاهدًا على علاقة جميع الشخصيات بالدين، أهمها مآذن قلاوون وبرقوق والحسين والغوري والأزهر والقلعة والرفاعي ومسجد الحسين. والأماكن المغلقة التي ظهرت في البيوت، كبيت سي السيد في "بين القصرين" وبيت أم ياسين في "قصر الشوق" وبيوت الأحفاد في "السكرية". حين نقرأ الثلاثية فإننا نتجول في الأحياء الشعبية، نستمع إلى بيت العائلة وبيوت الجيران أيضًا، نتعرف الجانب المضيء منها كالأزهر، وأشد الأماكن ظلمة وابتذالًا كبيت العالمات والخمّارات.
هذا التناقض الذي كان يعيشه الفرد المصري آنذاك (وبالفرد المصري أقصد الرجل بالذات كونه الوحيد القادر على التحرك بكل أريحية) هو تناقض مثير للاهتمام، يحدث أن نشعر أنه غير واقعي ولكننا ندرك جيدًا أن حالة الانفصام والفصل بين الروح والجسد في نظرة الفرد آنذاك إلى الإنسان نفسه كانت واضحة وضوح الشمس، وكما قال سي السيد: "باللسان والعمل معًا، بالصلاة والصيام والزكاة، بذكر الله قائمًا وقاعدًا، وما عليَّ بعد ذلك إذا روّحت عن نفسي بشيء من اللهو الذي لا يؤذي أحدًا أو يغفل فريضة، وهل حرم محرم إلا لهذا أو ذاك؟" (بين القصرين: صـ25 ويمكن النظر أيضًا إلى صـ265 "بمعنى آخر...") وأيضًا القول عن ياسين: "كانت المرأة والخمر في حياته متلازمتين متكاملتين، ففي مجلس المرأة عاقرَ الخمر لأول مرة، ثم صارت بحكم العادة من مقومات لذته بواعثها..." (بين القصرين صـ88).
وفي الجهة المقابلة نرى شخصية أمينة، المفرطة في الطيبة إلى حد السذاجة، ولكن لا تثريب عليها، فهذه كانت السمة الغالبة على كل النساء في ذلك العصر إلا ما ندر منهن، فكانت تقول: "هل تراها تهجر بيتها لأن زوجها يلم بغيرها من النساء؟ كلا وألف مرة كلا، لو تخلت امرأة عن مكانها لسبب كهذا لأقفرت البيوت من الفضيلات، والرجل قد يطمح طرفه إلى امرأة أو أخرى ولكنه يعود دائمًا إلى بيته ما دامت زوجه خليقة بأن تبقى عنده المرجع الأخير والمأوى الثابت، والعاقبة للصابرات". (كلمة "يلمّ" استعارة عن علاقته بنساء أخريات دون رغبة التحديد، سواء علاقة سطحية أو عميقة، إنسانية أو جسدية) أما بالنسبة إلى تحليل الشخصيات الأخرى في الرواية واستكمال تحليل شخصية سي السيد وأمينة، فلن أتطرق إليه في هذه المراجعة نظرًا إلى وجود الكثير من التعليقات والتحليلات المنطقية لدى النقاد والتي لا أختلف معها كثيرًا.
"لقد استطاع نجيب محفوظ من خلال تجربته الرائدة تطويع اللغة العربية الفصيحة في البناء السردي والمزاوجة بينها وبين المحكية العامية ببراعة لافتة وبخاصة في الحوار السردي الذي كان يؤسسه ويؤثثه باللهجة العامية لقدرتها الفائقة على التواصل مع القارئ وتوصيل المعنى المراد بسهولة ويسر"، وذلك قول الدكتور منّي بونعامة في حديثه عن الظاهرة اللغوية عند نجيب محفوظ.
ومن هنا أودُ التوغّل في الجانب اللغوي من الرواية الذي يهمني شخصيًّا في جميع الأعمال التي أقرأها باللغة الأصلية وحتى المُتَرْجَمة؛ إذ إنه وبشكل واضح جدًّا متأثر باللغة القرآنية كثيرًا، وهذا لا يثير استغرابي كونه كان يكتب رسالة ماجستير حول "فلسفة الجمال في الإسلام" -توقف بعد فترة بسبب انشغالات أخرى-، ومن أهم أسباب قبول الكاتب وشهرته لغته التي وصفوها بـ"العامّي الفصيح"، وأضيف عليها "السهل الممتنع" فلم يستخدم التراكيب القديمة والمعقدة كالتي نقرأها في كتب الجاحظ أو ابن خلدون، ولم تكن بالبسيطة التي نقرأها اليوم في الروايات الحديثة، وإنما كانت مزيجًا أرى أنه متقن جدًّا، فلم أكتشف أي مواطن ضعف في استخدامه للغة وتطويعها لخدمة النص بشكل مباشر أو غير مباشر.
ومن أهم عوامل نجاح البناء السردي في الرواية التي وطّدت العلاقة بين القارئ والشخصية: الحوارات الفريدة من نوعها في الرواية. يمكنني الإسهاب في موضوع الحوارات في الثلاثية أيضًا ولكنني سأكتفي بالقول إن أجمل الحوارات التي قرأتها من الناحية الفنية والأساليب المختلفة كانت في هذا العمل وتحديدًا في الجزء الأخير (السكرية)، ولولا الحوارات لما انتقلنا من سماع صوت الراوي إلى سماع صوت الشخصية بذاتها ككيان مستقل تمامًا عن باقي الشخصيات.
دار الشروق المصرية تملك حقوق أعمال نجيب محفوظ كاملة، والطبعة التي قرأتها كانت أحدث طبعة في 2020، إلا أنها كانت مليئة بالأخطاء اللغوية -إذا ما أخذنا بعين الاعتبار قدم الكتاب زمنيًّا- فبعد انقضاء كل هذه الأعوام على الثلاثية لا بُد أن تصل إلى القارئ خالية من أي خطأ لغوي، وتعليقي هذا عن دراية أن الكاتب يتبع المدرسة المصرية في الكتابة، ولكن علاوة على ذلك فإن الطبعة بحاجة إلى قراءة مرة بعد مرة لتصويب كل الأخطاء التي يسهو عنها المدقق أثناء التدقيق، فضلًا عن أخطاء الطباعة.
وبما أنني بصدد الحديث عن اللغة أرى أن من الضروري ذكر اقتباسات الأغاني والقصائد والكتب وحتى الشخصيات التي كان لها الأثر البالغ في تعمُّقي بالرواية أثناء القراءة؛ عودة القارئ إلى البحث عن الأغنية التي كان يستمع إليها البطل في حدث معين أمر كفيل بأن يبين له الكثير عما يختلج في أعماقه وهذا ما شهدته خلال الثلاثية بالكامل ولا سيما في الجزء الأول في الحانات والمقاهي وبيوت العالمات.
"ونجيب محفوظ كاتب تحليلي لا يستهلكه الوصف والسرد، وصياغة الحكم، وتلقين المبادئ، وإنما تلفته الظاهرة -لا الحادثة- فيجعل جهده في الكشف عن دوافعها الموضوعية وتقصِّي مظاهرها، وتتبُّع آثارها في البناء النفسي للفرد والعلاقات المتبادلة داخل الجماعة"، بحسب محمد حسن عبد الله؛ من كتاب "الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ".
تعليقًا على هذا الاقتباس أرى أن مهنة الأديب والكاتب هي معالجة القضايا، أو بشكل أعم فإن مهنة الكاتب لا تقتصر على صناعة الجرح وإنما اختراع الدواء له، بغض النظر عن نجاحه أو فشله. وهذا ما لم أره في الثلاثية بالأخص في الجزء الأخير (السكرية) التي كانت الجزء الأكثر توضيحًا وتمحورًا حول القضايا الفكرية كالاشتراكية والدين الإسلامي والليبرالية واللا دينية وغيرها من المواضيع التي لا تزال تشغل العقول إلى يومنا هذا. لم يفعل الكاتب بهذه الأفكار شيئًا سوى وضعها في قالبه الروائي فضاعت خصوصية الفكرة بالنسبة إلى الكاتب ولم نرَ أي جديد منها، أي أن القضايا طُرحت طرحًا ولم تناقش، وبصيغة أخرى أتى الكاتب بقطع التركيب الصغيرة وبقيت كذلك قطعًا متفرقة لم يجمعها أحد من الشخصيات.
قبل انتقالي إلى جزئية الفكرة وتطبيع القضايا المثيرة للجدل، ونوبل للآداب في 1988، أود العودة إلى الإيقاع في الرواية. من وجهة نظر شخصية لا أرى أنه كان متقَنًا بتاتًا، الرواية بطيئة جدًّا، تفتقر إلى الكثير من الأحداث مقارنة بحجمها، ولا أطلق حكم الصحة والخطأ هنا، ولكني أقول بكل شفافية إن نجيب بارع في كتابة الحوارات، والرصد التاريخي والسياسي، ولكنه لن يكون أبدًا القمة بإيقاع الأحداث في الرواية، وإن لم نقارن كمية الأحداث بحجم الرواية بناء على اعتقاد البعض أن هذه المقارنة خطأ فادح، فإن المقارنة يمكن أن تقع بين طول الحدث وعمقه ومدى خدمته للنص، وهذا ما افتقرت الرواية إليه بشدة، كما يُعد ذلك سببًا رئيسيًّا في نفور القراء (خصوصًا ذوي النفس القصير إن جاز التعبير) من إكمال قراءة الثلاثية والاكتفاء بـ"بين القصرين"، ولكن كون الكاتب هو من كتّاب الأدب الواقعي، فإن الواقع لن يكون حابسًا للأنفاس دائمًا، فيكمن جمال الأحداث في كونها من التي نشهدها يومًا بعد يوم، إذ إن الحكاية مستمرة تعيد نفسها وتتلبس أزمانًا وشخوصًا آخرين، ولكنها بذاتها ستبقى دائمًا مستمرة.
في هذه المراجعة لا أتحدث من موضع الناقد المتخصص وإنما القارئ والكاتب الملم بأدوات الكتابة، ولذلك يمكنني إسقاط رؤاي الشخصية أثناء الحديث بكل أريحية، أعتقد وبوضوح تام أن الكاتب خلال وصفه للعنصر الرجالي في الرواية ركّز كثيرًا على الغريزة الشهوانية للرجل إلى حد استعمال الوصف المبتذل في الكثير من صفحات الرواية. ولا أقول هنا أنه خدش حياء القارئ، ولكن هذه المسألة حساسة قد يختلف معي فيها الكثيرون، ولكن للفن حدودًا أخلاقية لا يمكن تجاوزها، بالأخص عندما يكون هذا الفن نابعًا من شخصية معلنة إسلامها ومدّعية التزام خصوصية العلاقات الجنسية، ومدركة تمامًا أن نظرة الإسلام إلى الإنسان بعيدة كل البعد عن النظرة الحيوانية المادية الطبيعية التي يعتنقها الغرب. ولتوضيح وجهة نظري فإن وصف الكاتب بالدرجة الأولى لشخصية سي السيد وابنه ياسين ثم بقية الرجال الذين وردوا في الرواية -الذين اشتركوا في هذه الغريزة بطبيعة الحال- كان وصفًا مبتذلًا في الكثير من المواضع، وهذه اللغة التي تثير لدى القارئ شعورًا معينًا يثير عواطفه. فقد ورد على سبيل المثال في قول ياسين: "لا يفوق سعادته إذا ظفر بلون بشرة صافٍ لم يره من قبل، أو بلحظ عين لم يتعرض لمثله، أو لثدي عجيب في نهوده، أو لعجيزة خرقت المألوف في ضخامتها أو حسن تكوينها"، فيرجع مرة وهو يقول: "فاز بالسبق اليوم نهد الست التي كانت واقفة أمام الدكان الفلاني". (بين القصرين صـ286)، ولكنه في مواضع أخرى وليبتعد عن اللغة السوقية إذا صح التعبير، استخدم لغة أصعب بقليل كقوله: "إذ رب ضريرة رّيا الروادف كاعب الثديين خير ألف مرة من عجفاء مسحاء مكحولة العينين"، وفي الصفحة نفسها عاد مرة أخرى إلى لغة أبسط بكثير قائلًا: "يا بنت العالمة وجارة التربيعة.. تلك لقّنتك أصول الدلال وهذه تمدّك بأسرار الجمال، لهذا ينهد ثدياك من كثرة من عبث بهما من العشاق"، وبعدها بعدة أسطر: "افتحي يا أجمل من اقشعرّت له سرتي، ومص الشفة ورضع الحلمة لأنتظرن حتى مطلع الفجر، ستجدينني طوع بنانك..." (بين القصرين صـ285)، واستخدامه لكلمات: "عجيزة مدملجة رقراقة"، وبعدها ببضعة أسطر: "يا لها من عجيزة سلطانية جمعت بين العجرفة واللطف يكاد البائس مثلي يحس بطراوتها وشدتها معا بالنظر المجرد.." (بين القصرين صـ87)، فاعتراضي ليس على فكرة طبيعة الرجل الشهواني آنذاك، ولكن في صياغة الفكرة وإيصالها للقارئ، وكثرة ذكرها الذي لم يخدم النص كثيرًا، وأبين أيضًا انطلاقًا من الفكرة السابقة أن شخصية الرجل كالسيد أحمد عبد الجواد (سي السيد) ظهرت بصورة طبيعية جدًّا لا تثير الجدل بالنسبة إلى من حولها، كأن كل الشخصيات كانوا يتقبلون فكرة شرب الخمر والحانات وغيرها، ولم تكن توجد أي قوة في الرواية تقاوم هذا التناقض في الشخصية، وذلك أدى إلى تطبيع فكرة أن شخصية سي السيد هي شخصية طبيعية، يعطي قليلًا لدينه وقليلًا لدنياه، كما أنها شخصية ذات مكانة كبيرة بين الجميع حتى أهل بيته، ولم نرَ أي علامة في الرواية تستنكر هذه الأفعال.
أخيرًا وليس آخرًا.. في 1988 فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب، وهذا إنجاز بالتأكيد عظيم ويُحسب للأدب العربي، أما السؤال الذي سأتركه من دون إجابة واضحة، هل يستحق نجيب محفوظ هذه الجائزة؟ على أي أساس تُمنح نوبل؟ وإن كانت الثلاثية قمة الأدب العربي، ألا يعد ذلك مصيبة؟ ثم ما الذي جعل من نجيب محفوظ أيقونة غير قابلة للنقد؟ ومعلّمًا غير قابل للتعلّم، وأبًا للمهنة لا يرضى أحد التعليق على استراتيجياته؟
إن المعضلة التي نواجهها اليوم هي انعدام العقل النقدي، وعدم مقدرة القارئ على فك الرموز وربط النقاط بعضها ببعض، نفتقر إلى قارئ يرفض بكل صراحة ويوافق بكل صراحة، وفقًا لمرجعيته الفلسفية، ونظرته الخاصة إلى الدين والحياة والإنسان، حتى لا نتحول -كما يحصل الآن- إلى ببغاوات تطبل لغيرها، وإنما أصحاب رؤى وآراء قابلة للنقد والنقاش. أرجو من خلال دراستي المتواضعة جدًّا، والبسيطة في طرحها وفكرتها، أن أثير تساؤلات لدى القارئ تفتح أبواب الجواب، فما فائدة العلم إن لم نشاركه ونشكّله وفق تجاربنا وأفكارنا؟